العدد 3519 - الأربعاء 25 أبريل 2012م الموافق 04 جمادى الآخرة 1433هـ

إهانة الإنسان احتجاج على تكريم الله له

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

يذكر الرحالة والمؤرخ أبوالحسن علي بن الحسين المسعودي المتوفى سنة 346 للهجرة (957 للميلاد) في الجزء الثالث من سفْره «مروج الذهب» في فصل خصّصه للحجاج بن يوسف الثقفي في فقرة «موت الحجاج» أنه «مات في سنة خمس وتسعين، وهو ابن أربع وخمسين سنة بواسط العراق، وكان تأمّره على الناس عشرين سنة، وأحصى من قتله صبراً سوى من قتل في عساكره وحروبه فوجد مئة وعشرين ألفاً، ومات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهن ستة عشر ألفاً مجرّدة (التي نزع شعرها)، وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر من الشمس في الصيف ولا من المطر والبرد في الشتاء». وذكر أنه ركب يوم الجمعة، فسمع ضجة، فقال: «ما هذا؟ فقيل له: المحبوسون يضجّون ويشكون ما هم فيه من البلاء. فالتفت ناحيتهم وقال: «اخسأوا فيها ولا تكلّمون» (المؤمنون - 108).

وأقف عند الفقرة الأخيرة التي يتطاول فيها ذلك النموذج الأسوأ في تاريخ الطغيان الذي اكتظ به تاريخنا العربي والإسلامي؛ ليس في تمثل منطق الله في غير موضعه فحسب؛ بل أن يضع نفسه في موضع الله بإقامته جحيماً ارتأى أحقيته في قيامه، عبر صور ومشاهد يصعب أن تقف على مثيل لها لدى أمم أخرى.

كل ذلك حفَرَ وقعّد وأسس لممارسات لمّا تنقطع أسهمت إسهاماً في تردي أحوال الأمة وتخلّفها ومحاصرتها في أكثر من سجن عملاق. ممارسات لم تجعل للإنسان أدنى وزن وقيمة؛ فانتهبت حقه في كل شيء. والأهم، حقه في أن يعيش إنساناً كما أراد له خالقه، لا كما أراد ويريد الذين يمسكون بمصيره ويدخلونه في دائرة تملُّكهم.

تتقدّم الأزمنة بتقدّم الإنسان وليس العكس. الزمن جامد على رغم حركته. الزمن لا يملك طاقة أن يخترع لك أسباباً ووسائل تجعل الحياة أكثر عدالة ويسراً وسهولة. الإنسان يفعل ذلك. وعبر التقدّم الذي يتحقق عبر العقل الخلاّق وإعماله لن تختفي التضحيات والآلام أيضاً. ستبرز هنا وهناك. ستُهرق دماء وتسيل معها دموع؛ لكنها في نهاية المطاف تصل إلى المدى والأفق الذي يستطيع من خلاله الإنسان أن يراكم عبر التشريعات والأنظمة ما يحفظ لذلك الإنسان كرامته ويعوّضه سنوات العذاب التي أوصلته إلى مرحلة تطمئن فيها روحه وتأمن نفسه وتتفتّق عقليته عن المذهل والباهر من الإنجاز والإبداع وروعة الملَكَة.

ولن يحدث ذلك ولا جزء منه ما لم تطلّ المراجعات بشجاعة، وتبرز القراءات الواعية والمحاسِبة للخلل والانتهاكات، ووضع تشريعات وضمانات لعدم تكراره.

أكثر ما يُؤذي الحياة ويُدخلها في دائرة ومرحلة العدم؛ أو ما هو شبيه له؛ حين لا يكون لإنسانها الغلبَة على حقوقه واحترامه لحقوق الآخرين. لا يمكن تصوّر الحياة مستقرة باضطراب أحوال الناس ومصادرة تلك الحقوق؛ صغرتْ أم كبرتْ. لا فرق. ثم إن ما يراكم تلك الأخطاء ويؤبّدها ويحوّلها إلى كوارث، هو غضّ الطرْف عمّا يُظن أنه البسيط وغير ذي هم أو بال من الحق، وأن الحياة لن تتوعّك وتضطرب بغيابه، وفي ذلك بلاء واستدراج يجرّ وراءه ما يجرّ من غضّ أكثر طرْف؛ وصولاً إلى غضّه حتى عمّا يهين ويحط من كرامة الإنسان، وفي درجة نهائية، يرى في حياته عبئاً وفائضاً حان الوقت للتخلص منه!

التأسيس القديم لشواهد ومشاهد ونماذج وصور المظالم والعنف والطغيان والمصادرات والقمع، لا يعني عقلاً ومنطقاً في أي علم استمراره وتأبيده وتوارثه من قبل الذين يتسلمون تلك الرايات؛ وإلا كان خلق الإنسان والحياة عموماً ضرباً من العبث، والعبث خلاف الحُسْن ولصْق القبح، كما أنه خلاف النظام الدقيق القائم عليه هذا الكون والحياة ببشرها ومخلوقاتها.

يبقى الإنسان، موضوع وطرف تلك المظالم والعنف والطغيان والمصادرات والقمع، وحده القادر على وضع حدّ لوهم استمرارية وتأبيد وتوارث كل ذلك. وحده القادر على اختيار إما أن يحيا كإنسان لا يمكن أن يكون مكرّماً من خالقه ليهان من مخلوق؛ أو أن يكون مكرّما وصاحب نفْس محترمة.

ثمة مأزق أخلاقي يُراد له أن يكون مستمراً ومؤبّداً هو الآخر؛ عبر نموذج لإنسان «سوبر» يُحترم ويُكرّم في جزء من العالم؛ وآخر عرضة للسحق والسحْل والإهانة في جزء آخر من العالم نفسه. ذلك المأزق متورطة فيه دول ترى كرامة إنسانها مُقدَّمة على كرامة أي إنسان آخر خارج حدودها؛ وخصوصاً الدول التي باتت تتحكّم في «الحل والعقد»

في كل ما يستجدّ من أمور العالم؛ بدءاً بترسيم الحدود وليس انتهاء بترسيم المصائر، من خلال هيمنتها على العالم وسياساته. وفوق هذا وذاك، لا تتردّد في دعم دول وكيانات وظيفتها الأولى وليست الأخيرة أن يكون إنسانها في الدرَك الأسفل من المعنى والقيمة والحضور.

كأن إهانة الإنسان احتجاج على تكريم الله له؛ بل هو كذلك.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3519 - الأربعاء 25 أبريل 2012م الموافق 04 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 11:37 ص

      احببت ان اثني على قلمك

      ربما يكون المعنى في متناول كثيرين ولكن كسوتك ليست كذلك ولا غرو فانت اديب ، شكرا وجعلك الله كما تقول محترما للانسان مهما اختلفت معه

    • زائر 6 | 6:41 ص

      لكرم والكريم

      ا
      عمل الانسان به أفعال متعددة منها الظن . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) الحجرات: 12(
      فاذا كان جزء من فعل الظن أثم فما بال كل الظن؟؟
      و هناك افعال أخرى مثل الاعتداد ، والاعتداء ...
      فهل الاهانة من الاسماء أو الافعال ؟

    • زائر 5 | 4:07 ص

      يحاربون الله في كل شيء

      وماذا نقول في من حارب الله في قتل الإنسنان وإهانته وحاربه في رزقه وتعليمه.. ماذا نقول في من حارب الله في تدنيس قرآنه و هدم مساجده الذي يعبده الإنسان فيها.. إذا هؤلاء يحاربون الله الجبار المنتقم وهي أكبر من إهانه للإنسان

    • زائر 3 | 2:45 ص

      ليس للإنسان الحق بإهانة نفسه فكيف بإهانة غيره

      نفس الانسان التي منحه الله إياها لم يعطه حق اهانتها وجعل ذلك محرما وهي نفسه التي تعتبر مخولا عليها، فكيف بخلف الله الآخرين الذين خلقهم الله ليعمروا الأرض ويعيشوا عليها ويقتاتوا من رزقه وعطائه.
      الإنسان مخولا ان يعمل في الارض وفق ما يرض الله وأن لا يتعدى حدوده وإذا فعل ذلك فإن له من العقاب ما اعد الله وأحيانا بعض العقوبات تعجل لسبب ما وما في الاعم الأغلب لا يؤاخذ الله الناس هنا في الدنيا لأنه خلقهم ليمتحنهم ولو أنه آخذهم على جرائمهم في الدينا لأصبح الناس مطيعين خوفا من عذاب الدنيا فقط

    • زائر 2 | 1:12 ص

      يسألنا الله

      كنت عاريا فهل كسيتني
      كنت مريضا فهل زرتني
      كنت جائعا فهل اطعمتني
      فهل الله فقير يطلب الرحمة
      ام الروح التي وضعها في الانسان جزء منه هي التي تطالبنا ببراهين لإيماننا

اقرأ ايضاً