العدد 3526 - الأربعاء 02 مايو 2012م الموافق 11 جمادى الآخرة 1433هـ

الكتابة التي لا تُدين الخلل حبرها نَجَس

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

طوال عقود ثلاثة أو تزيد من الكتابة لم أجد أصعب وأتفه من أن تكتب لمجرد الكتابة. لملء مساحة مقررة عليك؛ أو أنت قررتها باختيارك. مثل تلك الكتابة مؤذية لمن سيستقبلها في الدرجة الأولى قبل أن تكون مؤذية لك.

كتابة كتلك ولو جاءت بخيارك ومن دون اقتناع بقيمتها ووزنها تحمل ذلك الكمَّ من الأذى لأكثر من طرف.

ماذا عن كتابة تُملى عليك؟ أن تكتب ما يريده أحدهم. ما تريده جهة ما؟ أو أن تكتب مدفوعاً للكتابة لريع ومنافع وعطايا تصلك؛ أو تظل موعوداً بها؟ ليس شرطاً أن تحدث تحولات في الزمن وتتغيَّر قواعد، وتختفي من المشهد كل محفّزات ذلك النوع من الكتابة - ذلك افتراض أضعه في صالح المتنطّعين، ولا صالح لهم. أعرف أنَّ مثل ذلك محال حدوثه، وصائر بمنطق التطور والتراكم الطبيعي للأمكنة مثلما للبشر - لتكتشف بعد زمن أنك كنت غبياً بامتياز، وأنك لم تعْدُ كونك أداة وصوتاً مستعاراً وقناعاً تختفي وراءه الجهات التي دفعتك إلى ذلك الخزي. خزي كتابة ما تريد وترتئي؛ لا ما تريد أنت وترتئي.

في المراحل الفاصلة تعمد القوى التي تملك المال والنفوذ والسلطة إلى استقطاب تلك العيّنة من «البشر»؛ ممن هم خلو من الضمير والحس والقيمة والشرف والمعنى والإدراك لجرم وشناعة وصفاقة مثل ذلك الاصطفاف والتنادي والفزعة اللاأخلاقية مدفوعة الأجر؛ يتحوّلون في لحظات وأزمنة الاستقرار من كتّاب وشعراء يقدّمون قيمة ما؛ سواء اتفقنا أم اختلفنا على ماهية وحقيقة تلك القيمة؛ إلى موظفي علاقات عامة في الصحف التي يطْلعون بها على الناس بمقالات تمجّد كل خلل وتجاوز وسرقات وانحراف، وكل ما يهدّد الحياة وطبيعتها واستقرارها.

في المراحل الفارقة والمتأزّمة، ترى طفيليات وميكروبات ربما لا يمكن رؤيتها تحت أدقّ المجاهر حساسية. طفيليات وميكروبات في هيئة «بشر»، ترى عبيداً يرسفون في أغلال تُبصر وتُسمع وتُشمّ حتى في رائحة الحبْر الذي يسطّرون من خلاله نص عارهم ووهم تجميل قبح من يمثلون. تشمّ الانحطاط والفقر على رغم وهم النعمة الظاهرة من المعنى الحرام والوجود الحرام.

أعود إلى الكتابة التي يُراد لك أن تمهرها باسمك؛ سواء كانت نصّاً شعرياً تشمّ منه رائحة التنطّع والتزلّف والانبطاح والكذب والنفاق؛ أو مقالاً ليس بالضرورة أن تذهب من خلاله إلى مباشرة فعل ونص المديح؛ أو ما يشبه التأليه؛ ولكن عبر نُباح هو شتائم لأطراف يُراد لك أن تكون واحداً ممن تم تسجيلهم في «عار» السبْق. سبْق انحطاط لا علوّ فيه، وسبْق خزي لا شرف فيه؛ فيما الذين يتمترسون وراءك والدافعون لأجرك في وادي «البراءة» و «التعفف» عن ذلك الفعل، والنأي بأنفسهم عن سقوط مدوّ لا قعر له.

كل كتابة لا تعيد الاعتبار إلى الحياة وإنسانها وحتى أشيائها، هي محض تآمر عليه من طريق مباشر أو غير مباشر. حتى الكتابة الذاهبة في تسطيحها وتفاهتها و «تسذجيها» لوعي الناس هي صورة وشكل من أشكال التآمر عليهم.

كل كتابة تتخذ موقف المتفرج والمتغافل عمّا يحدث ويسرح في واد من تزيين وتسويغ وتبرير الخلل والانتهاكات هي في الصميم والمباشر من التآمر على الناس وصور معاشهم وأنفسهم في الدرجة الأولى.

مثل أولئك الذين يدلّكون حناجرهم بالعطايا قبل أن تصل إلى أيديهم؛ فيما البشر من حولهم تُهرس عظامهم وحقوقهم في الاحتجاج على الهول الماثل؛ أو حتى رفع سبّابة في وجه هذا الخسف، لا يصنعون في الحياة إلا أوجه وصور خزيها وارتدادها. لا يصنعون ولا يوثّقون سوى شهادة لعنات تطولهم أحياء وأمواتاً.

الكتابة التي لا تقول لصانع الخلل ومنتِجه: «أنت ابن خلل» لا تستحق الحبْر الذي كتب به النص، وأكاد أشمّ من الحبْر رائحة دم ودخان وجثث متفسّخة في أمكنة نائية تم النيْل منها كما لن تنال الضواري من الضعيف في عالمها.

الذين نافقوا وداهنوا واستسلموا وقبضوا وتآمروا وتفرّجوا وصمتوا عبر كتاباتهم؛ لم يصنعوا إلا العار؛ ولم يكن أثرهم في حراك أممهم إلا اللعنات، وحضور الرماد والذاكرة التي لن تجد داعماً أو خادماً لها بالتعبير التقني المحض.

والذين واجهوا وتصدّوا وجالدوا وجاهدوا ونافحوا عبر كتاباتهم عن قضايا شعوبهم هم في القلب من الحضور والذاكرة والأثر وتراكم القيمة والمعنى.

بعض ما يمكن قوله بشأن الكتابة، إنها إن لم تلامس روحك؛ أو سطح روحك على أقل تقدير؛ لن تستطيع إقناع صاحبها؛ وسيكون من العبث إقناعك بها. كتابة كتلك ستظل مصابة بالزهايمر والاستعطاف والتودّد والتغاضي عن كل محارق الدنيا، والتعامل معها باعتبارها إحدى مشاريع الخطط الخمسية التي لم يرَ أولها النور كي نثق بخاتمة كما في الأفلام العربية الرومانسية التي يتصدّر بطولتها فريد شوقي ليكمن له المليجي في أحد مشاهد الفيلم سعياً وراء خطف حبيبته!

كتابة كتلك لن تنشد غير ريعها وإن تم حجب الهواء والشمس عن الناس. تنشد حضورها على حساب احتضار وخلل الحياة.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3526 - الأربعاء 02 مايو 2012م الموافق 11 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 13 | 5:47 م

      نبض

      اخي وأستاذي ليظلوا يسطرون الكذب ليضلوا به طريقهم ، فالحقيقة هي الباقية لانها البحر الذي سيذهب زيف مدادهم ، هؤلاء فقدوا هويتهم وبوصلة انتماءهم أصابها العمى والزهايمر هم فقدوا الحس بالصدق الذي ينير القلوب والوجوه .

    • زائر 12 | 6:48 ص

      احسنت

      بارك الله فيك

    • زائر 11 | 4:37 ص

      هناك من يمى عليه وهذا في كل زمن وعصر يوجدون ، أما في حالتنا هناك من هو أشد ممن يملي عليه حقدا ، ويظهر ذلك فيما يكتب هناك املاءات ولكن البعض زاد وتبرع بنفسه للنيل من كل شريف ليس ليزداد العطاء بل ليروي الحقد الأعمى الذي ابتلي به .

    • زائر 9 | 3:10 ص

      قل الحق ول على نفسك

      استاذي جعفر انا اعرفك ومن متابعين في المجال الثقافي والأدبي من خلال تتبعي لجميع ماتكتب نعم اشهد لك بالشفافية وقلم حر يعلو في الفاق وهذا القلم الذي ننشده دائماً والا مثل ماقلت البحر نجس فلك التحية والحترام عزيزي

    • زائر 8 | 2:24 ص

      بعض الكتاب وظيفته وظيفة القلم فقط

      القلم له وظيفة تتشابه في كثير من الاحيان مع وظيفة بعض الكتاب وكما ان اليد تتحكم بالقلم ماذا يكتب كذلك بعض الكتاب يكتبون ما يملى عليهم فقط.

    • زائر 6 | 2:00 ص

      الجنبي

      المشكله ياأستاد الهدف ليس فقط النقود ولكن هناك حقد أعمى والنقودلا تسعد أنسان يحمل الحقد

اقرأ ايضاً