العدد 3539 - الثلثاء 15 مايو 2012م الموافق 24 جمادى الآخرة 1433هـ

الباحثة رندا قسيس بين قناديل الحرية وسراديب الآلهة

الفرد هو منتهى الحرية ومبتغاها، ولهذا هما أيقونتان مقدّستان ككينونة داخل الحياة ، فالفرد لا يجد ذاته وتعبيراته الثقافية والحياتية إلا في ظلال الحرية، من هنا رفعت الباحثة والناشطة السورية رندا قسيس قناديلها في ظلمات الحياة، بكل أشكالها وألوانها، ودخلت في صراع مع قوى الشر، من أعداء الانسانية وحقوق الفرد وحرياته، فحملت مع صولجاناتها النحاسية فكراً ومبادئ بيضاء وشفافة للبحث عن الذات الإنسانية وانعتاقها من نير الظلم والجور والفساد والتسلط الديني والسياسي والإجتماعي، لتصنع عبر الكلمة والفكر والثقافة منظومة ووشائج من الحريات يكون أساسها وتربتها وجذورها الفرد الانسان، ذلك الكائن الذي يحتاج للضوء والماء والهواء، وقبلها للحرية التي تحتضن كينونة الفرد وأحلامه وثقافته والنشأة التي يتربى عليها داخل هذا المناخ. ولكن في ظل ثقافات رمادية متشعبة ومخيفة، دجنت الفرد وروضته ضمن ثقافة الحاكم والأله والسلطة ورجال الدين والقبيلة، وبوجود قوى تعتبر نفسها آلهة أرضية تسخر كل شيء لنفسها دون حواجز ورقابات وضمير واخلاق. كان لابد لرندا قسيس أن ترفع صوتها عالياً، وتعلن أنها معركة للحريات وللفرد ووجوده، انطلاقاً من تسليط الضوء على تابوهات ومحرمات يخشى الكثيرون الكتابه فيها، لتخرج عن اللامألوف، وتثبت أنها ليست أنثى تابعة إلى سلطات ذكورية ومجتمعات مدجنة تحت ثقافات وهرطقات مخيفة، ولتعكس أن للمرأة صوتها وفكرها في قضايا ثقافية آن الأوان لرفع الستارة عنها، والحديث فيها بشكل علمي وفلسفي عميق وموضوعي، بعيداً عن نزق الشخصنة والنرجسية، لتضع بين يدي القارئ كتابها الجديد وبحثها العلمي في فلسفة الدين والجنس والثقافة، ليكون مشروعاً فكرياً وبحثياً للباحثة على مدى المستقبل، للوصول إلى حقائق منهجية ستغير الكثير من المفاهيم والرؤى لدى الناس والمجتمعات.

تقول الباحثة في مقدمة كتابها: «لقد أعددت هذا الكتاب، ليس من أجل نفي أو إثبات ديانات أو أخلاقيات، وإنما من أجل أن ننظر في سراديب الذات التي جاءت منها. وهذه خطوة أولى فيما أظن أنه مشروع يستحق التوغل فيه بهدف التحرر من جميع القيود التي تكبّل فكر الإنسان من أجل ولادة جديدة للفرد في هذه المجتمعات.

تتحدّث في كتابها عن الأخلاق ومنابعها، من خلال معالجة أنتربولوجية لها، فتبدأ بالنظام الطوطمي وبداياته لدى الانسان، كنظام عشائري وقبلي قائم على مجموعة من التابوهات التي تتلخص في عبادة الطوطم والطاعة له.

ثم سارت في عوالم السحر والروحانيات ودلالتها النفسية. أيضاً حلقت في متاهات الأساطير الغريبة، وكيف أنها نابعة من الروحانيات وشعور الانسان نحوها. ويبقى موضوع الجنس كثقافة وفكر حيوي لدى المجتمعات، ركيزة من ركائز هذا الكتاب؛ إذ تتحدث الكاتبة عن الجنس وعلاقته بالنفس والعقل وسلامتهما، من خلال دراستها إكلينيكيا وكيف يمكن تحويل الطاقة الجنسية إلى عملية تمنح عطاء وإبداعاً للفرد تجاه محيطه وبيئته.

كان للأم حضور في فكر الكاتبة؛ إذ تحدّثت عن الطبيعة الازدواجية للأم لدى الطفل، وذلك من خلال مشاعر الحب والكراهية التي تنشأ لدى الطفل تجاه أمه والتي اعتبرها فرويد أن حياة الفرد مقترنة بطفولته وبمحيطه.

لكن المثير والشيّق هو تطرق الكتاب إلى موضوع الخلق، انطلاقاً من الآساطير القديمة، فنجد أن الإله الخالق يعكس حالة كمالية متكاملة ومتداخلة بكل أنواعها وأشكالها، فهو الخيال والهلوسات والرغبات وحالات القلق والخوف...إلخ، كما يرتكز مفهوم الإله الأولي على أساس المعرفة والإدراك المطلق، فهو حالة إدراكية كاملة للداخل النفسي والخارج الواقعي، ليكون نقطة البداية والنهاية للحياة والموت.

ثم تبرز الكاتبة نماذج ثقافية في دراستها بين المحيط الخارجي والأرضية التي تستند عليها، فتتحدّث عن الأخلاق والعادات والقوانين والأعراف، وكذلك في منابع النفس الأولية، والغرائز وماهيتها.

تظل تحلق بنا في عوالم ميتافيزيقية تجمع بين الفرد ومعتقداته الأولى تجاه كل شيء من حوله، كمقدسات ومحرمات، وحاجات حيوية مرتبطة بكينونته ومجتمعه، وعلاقتها بالإدراك والأخلاق ومنابع النفس والجسد والجنس والدِّين.

لكن قسيس تأخذنا بعيداً إلى الماضي الجميل والتاريخ المليء بالألغاز والأساطير، لتعيدنا في نهاية المطاف إلى تربة الحرية، وعلاقتها بالحياة، تقول في ذلك: «الحضارة البشرية ناتجة عن تطور مرحلي للوعي والإدراك المتغير بحسب المنظور المنفعي للبشرية والتي تخدم استمرار العرق الإنساني. من هنا، أعتقد بضرورة العمل على إعادة الحرية للفرد أولاً والحد من قمع غرائزه من أجل العثور على توازن سليم ما بين المصلحة الفردية والجماعية. فالهدف الرئيسي هو إيجاد وعي أكبر لتحرير الفرد من جميع الإلزامات التي قيّدته بها الجماعة وإيجاد توازن بينه وبين مصلحة الجماعة».

هكذا هي رندا قسيس بأفكارها وأحلامها وحياتها، تضع أمام المجتمعات أفكارها الصحية، والجميلة بشكل علمي وفلسفي وثقافي سلس وممتع، من خلال سراديب الآلهة، ودراسة كانت متعبة وشاقة بالنسبة لها، من منطلق تقديم خدمة ثقافية وفكرية للمجتمعات الانسانية، بغاية تطوير الذات الفردية وتطهيرها من كل الثقافات التي تقمع حريتها وتكبتها وتقيّدها، لتتحول إلى ذات مبدعة وطاقة بشرية قوية وغير محدودة تساهم في خلق وبناء مجتمعات إنسانية حرة ومتطورة تكون منبعاً لديمومة البشرية بصورة صحية وسليمة.

العدد 3539 - الثلثاء 15 مايو 2012م الموافق 24 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً