العدد 3561 - الأربعاء 06 يونيو 2012م الموافق 16 رجب 1433هـ

التاريخ يقدّم شواهده والعابثون في وَهْم حصانات

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

لا أبالغ إذا ما قلت، إن التاريخ العربي - الإسلامي بكل حوادثه وتحوّلاته وتناقضاته وكوارثه لم يعط درساً لمعظم الذين قُدّر لهم أن يكونوا في موقع الصدارة، وأحياناً الوصاية على البشر بطرق ارتضاها أولئك البشر أم أنكروها. تلك مسألة سيجفُّ حبر الدنيا لو أسهبنا في تفاصيلها.

العِبْرة غائبة، وفي كثير من الأحيان مُغيّبة ويراد تغييبها. أكثر الذين يقرأون التاريخ وبانضباط ملحوظ، هم الأقل حظاً وأخذاً بالعِبَر فيه وتلمّس حكمة حوادثه ومصائر الذين كانوا غُفْلاً عن الاتعاظ به.

في ظرف أقلّ من عامين، سقط أكثر من نظام. لكل نظام تفاصيل هنا وهناك؛ لكن المسبّبات واحدة. الأثرة وتحوّلها إلى عقدة ومرض؛ فيما صاحبها يرى أنها في السياق الطبيعي لأهمية وفرادة ونعمة واستثناء حضوره في الزمن والتاريخ! صانع المستقبل هو؛ ولو أرسل البشر إلى قبور جماعية في حفل يقيمه لهذا الغرض!

خريطة وسائل التواصل الاجتماعي ووسائط أخرى قدّمت وتقدّم لنا مهزلة التعاطي مع ما بعد تاريخ يمضي ويتكرّر ويتناسخ. طغاةٌ من دون ذمّة يتولّى التاريخ ذمّتهم فيصبحون في دائرته. الذمّة التي لم تكن في الحسبان في حيواتهم تكفّل بها التاريخ. سقوطٌ وانهياراتٌ وهروبٌ واختباءٌ وتلمّسُ منجاة من هنا وهناك. ما الذي سيتغير؟ العِبْرة في آخر الحضور والهمّ. يتناسلون كأنهم الفطْر. قراءة التاريخ وإدمانه لا يحصّن أحداً من الوقوع في الفظاعات والأخطاء. استعداده لأن يكون منحازاً للإنسان فيه أو منحازاً للطاغية الذي يرى فيه مثلاً أعلى، هو الذي يمكن أن يمنحه مثل تلك الحصانة. حصانة مصدرها ما يمكن أن يقبل به ويضمّه ويجعله جزءاً حتى من جهازه التنفسي. الطغيان والغباء لا يتيحان ذلك!

في أقلّ من عامين تهاوتْ أنظمة حكمها أصنام من الرأس حتى أخمص القدمين. كانوا أقداماً من دون رؤوس؛ بمعنى تلك التي منها يلتمس الإنسان تدبير شئونه ومعاشه.

من تونس الهارب بعد «فهمتُكم» الذي اكتشف زلزلتها في قارعة أعلنها بائع خضار على عربة، تلقى صفعة من مجنّدة تنتسب إلى جهازه الأمني المرعب. كانت كُمّاً مهملاً لا أحد خارج أزقتها يعيرها اهتماماً. اكتسبت حضورها من عار الصفعة. صفعة من أشعل النار في جسده كي يفهم طاغية قصر قرطاج الرسالة. فهمها وقرّر الهرب! البعض يفهم بالهروب على رغم الندْرة!

طاغية النظرية العالمية الثالثة التي سوّق لها لأكثر من أربعة عقود في محاولة إقناع العالم بمزج طبخة يحاول صاحبها أن يرضي حتى أصحاب مواقف العبث واللاانتماء والذين كانوا في الصميم من نتائج هلوسته ومزاجه المدمّر أن يتيقنوا من مشروع الخلاص الذي تحمّله؛ فيما شعبه يعيش حصاراً ورفضاً واحتجاجاً. رفضاً لكل أمراضه. أصبح بعد غفلته عن عظة الأمس وما مرّ به: من الكلاب والجرذان والخوَنة وخدم الاستعمار والطابور ما بعد الخامس ... وكل قاموس إنقاذ. حصاره هذه المرة بعد نظرية إنقاذ العالم من خلال النظرية الثالثة! إنه فرعون ليبيا لأربعة عقود كان فيها مهزلة ومضحكة وتراجيديا مواقفه التي ختمها بما بدأ: في أنبوب عملاق مختبئاً وتم اصطياده كما يتم اصطياد الفئران!

فرعون مصر المحنّط منذ أكثر من ثلاثة عقود، لم يرد استيعاب الدرس؛ لأنه وجد نفسه فوق كل درس. درْس إدخال اقتصاد بلاده في مساحة تاريخية لم تعرفها منذ ستة عقود منذ ما قبل سقوط الحكم الملكي ترك الخزائن خاوية، في انتظار المؤونة الدولية التي من المفترض أن يُطعم بها شعبه.يأخذ هو وحاشيته الحصّة التي تليق به كفرعون، ويتكرّم على ملايين الأمة كلها بما يراه من فُتات. حوَّل أرض الكنانة إلى مزرعة مرة وحمّاماً عمومياً وحديقة خلفية لفرق التجسّس وطبْخ الفتن أكثر من مرة. لم يغيّر من فزّاعة مكررة رفعها لأكثر من ثلاثة عقود (الإسلاميون تهديد للعالم وليس لمصر وحدها). كان يرى أحقية أن تستمر السلالة الفرعونية في أنجاله، فابتدع «التوريث»من دون نصّ يُدينه أمام العالم.

طال به درْس امتهان كرامة المواطن المصري، الذي هو النموذج الأول في النباهة والكرامة والتحمّل من دون أن تفارقه النكتة في الأزمات، كاد أن يحوّله إلى اللاشيء في فترة «ألوهيته» التي توهّمها.

فرعون مصر لم يتعلّم من تعاقُبِ أكثر من فرعون. فشل في تحويل شعبه إلى مجموعة من المقتنعين بألوهيته، وعدم التجرؤ على الهمس بإمكانات أن ينضمّ إلى نادي الذين يمرضون وينهكون ويخرّفون.

«الراقص مع الأفاعي» في اليمن لم يستوعب يوماً أن يغادر المزرعة التي حوّل فيها شعبه إلى أُجَرَاء وعبيد ونواطير لحقول عنبه ووهْم عظمته.

لم تكن عظة التاريخ تعني له شيئاً كبقية فصائله. يقرأون ويعاينون سقوط من حولهم، ولكنهم يزدادون غباء كلما ارتفع منسوب طغيانهم!

قبل ذلك بأعوام، كان طاغية العراق (هولاكو العرب)، الذي أحرق الحرث والنسل في الذروة من تجاهل عظات تاريخ ضجّت واكتنزت به بلاده. عَبَر وأقام وهيمن وبطش في بلاده طغاة، وبقدر ما كانوا يتمتعون بدهاء في تصفية خصومهم كانوا يتمتعون بمواهب من الغفلة والغباء في الوقت نفسه. صاروا نسياً منسياً فيما صار واحداً منهم في حركة امتهان الخلق والاستخفاف بدمائهم. قراءة درس التاريخ وحفظه لا يكفي. ما بعدهما هو المسألة. ذلك ما هو غائب في سالف الزمن وحاضره، ولا أدري إذا كان ثمة مستقبل يمكن أن يمنحهم ملحقاً إضافياً لامتحان استثنائي. لا وقت لدى المستقبل لمثل هكذا عبث! أو محاولة تكليف جهده النظر إلى الذين بلا جهد جاءوا وهيمنوا وحدّدوا للناس حتى جنس وملامح كل ما يعنيهم؛ على رغم أن المعنى لا شيء يدلّ عليه في هذه الملهاة شبه المؤبّدة والمقيمة. لا شيء غير العدم ومحدِّداته لمصائر كثير ممن ينتسبون إلى المخلوقات المرتهنة بشكل شبه مؤبّد إلى ما ينسيها أي قيمة يمكن أن تكون موضوع التفاتة.

علينا ألاّ ننسى طاغية دمشق الذي لم تهذبه الجاهلية الأولى فظننا أن جامعات الذين يتهمهم بالتآمر على ألوهية حقه في حكم الناس بالنار والحديد ستتيح له متر مراجعة في لهوه اليومي بالدم وابتكار أكثر من خسف طال كل شيء.

كأنني أحدّث نفسي بعد كابوس جَلْد نال كثيرين. عن أي عظة في التاريخ أتحدث فيما اغتصاب ما لا حق لأحدهم فيه ضرباً من استعادة «حق» تأخر كثيراً بمنظور وتخريجات ليس من العسير إفشاؤها؟

لن يتعظ أحد منهم لسبب واحد ورئيس: إنه وهْم التفويض من أعلى، ووهْم أن الحياة امتداد لهم وليس العكس، على رغم الإنتاج الفائض من الموت في كل تفاصيل ما يهيمنون عليه! وحين يتوهّمون امتلاك الزمن، ما سبق منه وما حضر وما سيأتي، لن توجد ولن تقنعك شواهد التاريخ أنك في المرمي إذا تجاوزت. الوهم بات يهدّد الزمن وملحقاته!

لمّا أفضى الأمر إلى عمر بن عبدالعزيز كان أول خطبة خطب الناس بها أن قال:»أيها الناس، إنما نحن من أصول قد مضت وبقيت فروعها، فما بقاء فرع معد لأصله، وإنما الناس في هذه الدنيا أغراض تنتضل فيهم المنايا (ترميهم بسهامها)، وهم نُصُب (أهداف) المصائب مع كل جرعة شرق (غصّة)، لا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يعمر معمّر منكم يوماً من عمره إلا بهدم آخر من أجله».

لكأن التاريخ نفسه ملّ من فرط الشواهد التي يقدّمها بالجملة؛ فيما العابثون في انشغال بوهم أنهم في الحصانة مما يظنون!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3561 - الأربعاء 06 يونيو 2012م الموافق 16 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 4:46 م

      صدام حسين لم يسقط من الشعب العراقي

      الاخ الصحفي جعفر الجمري انا شخصيا يعجبني تحليلاتك الرمزية ولكن توقفت عن كلام علي صدام حسين فلكل يعرف من الدي اسقطة من الحكم ليس الشعب العراقي بدليل الان يتاسفون علي فقدة في هدة الظروف التي تملا بها الامة العربية امريكا واسرائيل وادناب الاستعمار وتاكد لوهو موجود لكن حال ....

    • زائر 4 | 12:12 م

      غريبه في زمن الغرائب

      ولا تعليق من الاخوان مع ان الموضوع فيه عبر لمن يعتبر وعرج على كثير من الاحداث لذلك استغرب هذا الجمود والكاتب معروف بكتاباته القويه او يمكن تعرض لشخصيه بريئه وكل الذي ذكرهم لم يظلم احد منهم غريبه والله

اقرأ ايضاً