العدد 3567 - الثلثاء 12 يونيو 2012م الموافق 22 رجب 1433هـ

بانتظار فكر اقتصادي عربي

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

عندما كتب د.زيغلر كتابه الشهير «سادة العالم الجدد» من النهَّابين والمرتزقة المسيطرين أساساً على الاقتصاد العولمي الرأسمالي، تطرَّق إلى ما أسماه إيديولوجية هؤلاء السادة، والتي وضعت تحت اسم بريء يعرف بـ «توافق واشنطن». هذا التوافق الذي وضعته مؤسسات دولية من مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومؤسسات مالية أميركية من مثل البنك المركزي الأميركي، والعديد من كبرى الشركات العابرة للقارات، يتماثل مع ما يعرف بالإيديولوجية النيولبرالية المهيمنة على مجتمعات العالم بنسب مختلفة.

من بين أهم ما جاء في ذلك التوافق تخفيض الضرائب على الدخول العالية وعدم استثناء الفقراء من دفع الضرائب، والتحرير التام للأسواق المالية، وتفكيك القطاع العام، ومساواة الاستثمارات الوطنية مع الأجنبية، وحرية التنافس بين قوى السوق، وتخفيض الرسوم الجمركية، والحد من عجز الميزانية العامة، وإلغاء كل أنواع الدعم للسلع الغذائية وغيرها.

نحن هنا أمام أناس يضعون في الواقع البرامج التطبيقية لنظريات اقتصادية كلاسيكية ساهم في وضعها العشرات من كتاب ومفكِّري الاقتصاد. أخطر ما فيها أن واضعيها ادَّعوا بأنها نظريات تنتمي إلى علم اقتصادي لا يقلُّ في صرامته وموضوعيته عن العلوم الطبيعية (علوم الفيزياء والكيمياء إلخ...).

أي أن الاقتصاد الذي يتحدثون عنه ويطلبون من العالم تبنٍّيه قائم على مسلَّمات واستنتاجات وتوجيهات وأنظمة حتميَّة لا رادَّ لقدرها، تماماَ مثل العلوم الطبيعيَّة. فمثلما أن الماء يتكوَّن من ذرَّات الأوكسجين والهايدروجين، وأن لا قرار في الدنيا يمكن أن يغيّر هذه الحقيقة الطبيعية، فكذلك هو اقتصاد السُّوق الذي يحكمه التوازن بين العرض والطلب دون أن يستطيع أحد تغيير هذه «الحقيقة»، وقس على ذلك الكثير من الادعاءات عن القوانين «العلمية» التي تحكم حقل وممارسات الاقتصاد.

يقابل تلك الادّعاءات تيار من داخل الفكر الاقتصادي نفسه يخالف الادّعاء بأن علم الاقتصاد مماثل للعلوم الطبيعية، وبالتالي لا يمكن تغيير أقواله واستنتاجاته، ويطرح أن الاقتصاد هو أحد العلوم الاجتماعية، وبالتالي من وضع البشر وقابل للأخذ والعطاء ومسلَّماته ليست حتمية وقابلة للقبول أو الرفض.

من هنا صدور كتب من مثل كتاب الكاتب الفرنسي الاقتصادي جاك جنرو تحت مسَّمى «قوانين الاقتصاد الحقيقية». في هذا الكتاب يتحدّث الكاتب عن عشرين قانوناً من قوانين الاقتصاد الكلاسيكي ويظهر المثالب والتناقضات والإشكالات التي تعجُّ بها تلك القوانين التي قبلها الكثيرون كمسلَّمات لا تقبل الجدل، بسبب الادعاء بأن الاقتصاد هو علم قائم على الرياضيات، تماماً كعلم الفيزياء مثلاً.

ليعذرنا القارئ لإقحامه في جدال أكاديمي اقتصادي، ولكن عندما يخرج المفكر الفرنسي باستنتاجات من مثل أن علم الاقتصاد هو علم بشري يضعه الإنسان، وأن ليس صحيحاً أن أنشطة السوق تصحّح بعضها بعضاً ولا تحتاج لأيِّ تدخل من قبل الدولة، وأن ليس بالصحيح أن الاقتصاد الخاص هو أفضل في جميع الأحوال من الاقتصاد العام، وأن العدالة يجب أن تكون جزءاً مهمّاً يحكم مسيرة الاقتصاد، وأن هناك كل الدلائل على أن التنافس السيّئ يطرد التنافس الطيب المعقول، وأنه كلما زاد وعظم تقاسم الثروة في المجتمع كلما زادت الثروة، وأخيراً بأن علم الاقتصاد وممارساته يجب أن يكون محكوماً من قبل علم السياسة وممارساته... عندما يخرج الكاتب بكل هذه الاستنتاجات، وغيرها كثير، فإن الموضوع يصبح موضوعاً يهمُّنا.

لماذا؟ لأن الكثيرين من كتاب الاقتصاد العرب ومن الاقتصاديين المتحدثين على شاشات التلفزيون يتبنُّون بصورة عميائية حماسيَّة كل مسلمات الاقتصاد الكلاسيكي وكل تطبيقات «توافق واشنطن» وكل تخريفات مدرسة شيكاغو المسوِّقة للنيولبرالية. ومن بين هؤلاء العرب من هم في مراكز السلطة واتخاذ القرار، أي ممَّن يساهمون في وضع السياسات الاقتصادية العربية المنبهرة بكل ما تقوله أبواق العولمة الاقتصادية، دون مساءلة ودون انتقاء لما يصلح لمجتمعاتنا وللمرحلة الاقتصادية العربية الحالية التي لها متطلباتها الخاصة بها.

ونحن مع المؤلف الفرنسي بأن مسلمات الاقتصاد هي من وضع البشر وأنها يجب أن تحكم من قبل السياسة، غير الفاسدة المرتشية الاستبدادية بالطبع، وأن السياسة إذن هي أيضاً يجب أن تخضع لحكم المواطنين ورقابتهم ورضاهم. عند ذاك لا نبقى محكومين من قبل توافقات في واشنطن أو غيرها، ولا تحكمنا مصالح مؤسسات دولية ليس لنا سلطان عليها. الأمل كبير في جمعيات علم الاقتصاد العربية في أن تخلق تياراً إنسانياً عادلاً في حقل الاقتصاد العربي وأن تكون لها مواقفها التحليلية الموضوعية الصارمة المستقلة.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 3567 - الثلثاء 12 يونيو 2012م الموافق 22 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 9:10 ص

      ولِمَ ... الإنتظــــــار

      ها نحن في زمان تستيقظ فيه الأمة العربية من غفوتها الطويلة،والتي طالما فرض عليها الرقاد وبطبطبةحنان الغرب !.حتى انتبهت إلى الدرك الذي تعيشه وهي تئن تحت سنابك الخسائر و جشع استغلال الإقتصاد العالمي ،لا فشل ولا استسلام مادامت الطاقة الفاعلة "حيّة " ،وإذا تضافرالفكر المتألق الحر و الجهود المخلصة ،أمكن تجديد الكيان الإقتصادي العربي وبمرتكزات متناغمة ترسم الأهداف "لأقتصادنا "عبر لجة الحياة الإنسانية التكاملية،إنها خير أمة أخرجت للناس.وتحياتي لكم ... نهوض

اقرأ ايضاً