شيء من الخوف... عنوان لفيلم عرضته دور السينما المصرية العام 1969... حسين كمال كان مخرجه، وجمال عبدالناصر كان هو من أجاز عرضه بعد حضوره عرض خاص للفيلم، تم في شهر اكتوبر/ تشرين الأول قبل أربعة عقود من الآن.
حضور عبدالناصر لم يأت تفضلاً على صناع الفيلم ولا ليرفع من قيمته الفنية أو ليعطيه برستيجاً خاصاً، لكنها كانت العادة حينها، تحديداً في الفترة الواقعة بين الأعوام 1967 - 1970، الفترة التي اعقبت النكسة من جهة وسبقت وفاة عبدالناصر من جهة أخرى.
لكن اختيار الفيلم لم يأت اعتباطاً، إذ كان واحداً من مجموعة أفلام واجهت اعتراضات رقابية بسبب مضامينها الروائية واسقاطاتها السياسية على واقع مصر السياسي في ذلك الوقت. ولم تطل قائمة تلك الأفلام بل جاءت محدودة العدد نذكر منها (المتمردون) لتوفيق صالح 1968، (المخربون) لكمال الشيخ 1967، (العيب) لجلال الشرقاوي 1967،(القضية)68 لصلاح أبوسيف في 1968، وأخيرا (ميرامار) لكمال الشيخ العام 1969.
جميع هذه الأفلام خلقت توجهاً جديداً لدى صناع السينما المصرية، أعطى للسينما دوراً أكبر وأكثر قيمة، دور غير العلاقة بينها وبين السياسة، وجعلها تلعب دوراً مهماً في تشكيل الوعي السياسي لدى الجماهير، أو حتى تغيير ذلك الوعي وقلب المفاهيم وخلق نزعات وتوجهات سياسية جديدة. حول الدور الجديد للسينما المصرية، نشأته وعوامل ازدهاره ثم تراجعه، كتب ناجي فوزي بحثاً مطولاً ناقش فيه عدداً من العوامل التي ساهمت في تكوين سينما الوعي السياسي في مصر والدعوة للإصلاح .سينما الوسط تحاول إستعراض تلك الدراسة بإيجاز، عبر عدة حلقات، وإلقاء الضوء على بعض أهم محاورها.
يؤكد فوزي أن السلطات حاولت منذ البداية، وعبر اجهزتها الرقابية، منع السينما من تحقيق دورها في صنع الوعي السياسي، سواء في مصر أو غيرها من الدول التي لا تحترم حرية الرأي والتعبير.
ولعل مصر تحظى بشرف أقدمية محاولات خنقها لحرية صناع الأفلام تلك منذ البدايات، إذ ترجع أولى محاولاتها تلك الى العام 1938 ومع بدايات تطور الأفلام السينمائية. في ذلك العام قامت الدولة بتسليط جهاز الرقابة على المصنفات الفنية لديها على فيلم «لاشين» الذي أخرجه الألماني فريتز كرامب والذي قام ببطولته مجموعة من فناني تلك الفترة يأتي على رأسهم حسن عزت، نادية ناجي، وحسين رياض.
اعتراضات الرقابة حينها جاءت على قصة الفيلم، التي كتبها هنريش فون ماين، والتي تدور حول لاشين، قائد جيوش أحد الحكام، الذي يحاول تنبيه الحاكم لمحاولات رئيس وزرائه الفاسد في السيطرة على الحكم والتلاعب بمقدرات الشعب. لكن الملك الضعيف لا يكترث لنداءات قائد جيوشه وينشغل بعلاقاته النسائية الكثيرة، الأمر الذي يجعل رئيس وزارئه يتمادى ويتمكن من تلفيق تهمة للاشين يودع على أثرها السجن. تتأزم الأوضاع بسبب فساد رئيس الوزراء ويثور الشعب احتجاجاً على أفعال الحاكم ورئيس الوزراء الظالم، وفي النهاية تنتصر الثورة الشعبية ويتم إطلاق سراح لاشين وتعم العدالة البلاد.
الفيلم أشار بوضوح إلى مسئولية الحاكم عن شعبه، وإلى إمكان قيام ثورة على الحاكم الذي يتآمر ضد شعب بلاده، أو على الأقل لا يعمل لصالحه، خصوصاً مع وجود حاشية تعرقل وصول صوت الشعب إليه. لهذا تعرض الفيلم للمنع أولاً، ثم إلى محاولات تعديل نهايته مرتين، بما يساير رغبة القصر الملكى فى مصر فى ذلك الوقت. وعلى رغم كل التغيرات، لم يعرض الفيلم سوى مرة واحدة، ليظل بعدها محرماً على المشاهدين 53 عاماً بحجة امتلائه بالإسقاطات السياسية التي تسيء للذات الملكية في ذلك الوقت.
المصادفة وحدها مكنت المنتج جمال الليثي من شراء الفيلم من معرض للأفلام القديمة في ألمانيا العام 1991، إذ فوجئ بعرضه، فقام بشرائه وبيعه للتلفزيون المصري، ليرى النور لأول مرة على الشاشة الصغيرة.
بعد ذلك لم يحمل أي من صناع الأفلام في مصر الجرأة على تقديم فيلم على تلك الشاكلة، واكتفوا بتقديم ما أرادت لهم السلطات وأجهزتها الرقابية أن يقدموا من تسلية وامتاع فقط على حساب الفائدة والهدف.
بعدها بثلاثة عقود وبعد ثورة 52 ، أجري تعديل على قانون الرقابة على الأفلام إذ ألحقتها الدولة بوزارة الداخلية. وبحسب فوزي فقد كشف ذلك عن نظرة متدنية للسينما، بوضعها ضمن « الملاهي» حتى تضع أصحابها فى موضع الشبهة منذ البداية، وتعزل فنان الفيلم عن أصحاب الرأى، الأمر الذي كان له تأثير واضح على فن الفيلم، إذ ظل الإنتاج السينمائي حبيس أهداف التسلية.
ويؤكد فوزي أن المتتبع للأفلام السينمائية المصرية يستطيع أن يلاحظ بسهولة عجزها عن تقديم أي مساهمة فى غرس الوعي السياسي، كما إنها «في الوقت نفسه سينما كسولة، خائفة من ممارسة هذا الوعي، استكانة للإنتاج السهل، ومن ثم فنحن لا نستطيع أن نعفي عنها تهمة التنصل من هذه الوظيفة الثقافية المهمة التي يقوم بها هذا الفن في التاريخ السينمائي للشعوب المتقدمة عموماً.
على رغم ذلك يعود الباحث ليضيف بأنه كانت هناك بعض المحاولات القليلة جداً التي تصل إلى حد الندرة في هذا المجال، لعل أشهرها الأفلام المذكورة أعلاه (المتمردون، العيب، المخربون، ميرامار، القضية 68).
ويتطرق أول هذه الأفلام الذي اخرجه توفيق صالح بشكل واضح إلى الثورة في مصر وإخفاقاتها، وذلك من خلال قصة نزلاء مصحة صدرية يقومون بالثورة على طاقم إدارتها السيئ، ويقومون باختيار أحد نزلاء المصحة من مقيمي الدرجة الأولى قائداً لثورتهم، وهو طبيب صدر مريض مثلهم. إلا أن الثوار وعلى رأسهم قائدهم الطبيب المريض يفشلون فى إدارة المصحة، إذ إن قائدهم الثوري لا يملك سوى أحلامه الخالية ليقودهم بدلاً من أن يكون قادراً على التخطيط العلمي السليم. بالطبع واجه الفيلم مشكلات كثيرة مع الرقابة التي حاولت منعه لعامين ثم طلبت تغيير نهايته، خصوصاً لتزامنه مع الوقت الذي كان الوضع السياسي في مصر في انهيار تام.
يقول صالح في أحد لقاءاته التلفزيونية معلقاً على ذلك «في نهاية الستينات أو يعني من أيام حرب اليمن وإحنا نازلين سياسياً خطوة خطوة، أنا بدأت تصوير(المتمردون) يوم خمسة يونيو/حزيران سنة 1966، الوضع السياسي في مصر كان في انهيار واحدة واحدة كده، هنا بتلاقي إدارة لا تخدم شعبها... يعني لا تخدم المرضى والمرضى في ثورة بدون وعي، هم بيغضبوا آه وييجوا على حاجة ويعملوا تمرد ومظاهرة بينما مش ده اللي هايحل المشكلة».
وبشأن تشديد الرقابة على الفيلم الذي قام ببطولته كل من شكري سرحان وزيزي مصطفى وزوز شكيب، يقول صالح «المتمردون لما راح الرقابة تأخر... يعني عادة بيأخذ ثلاث أيام أربع أيام وبتطلع النتيجة فده تأخر فأنا رحت علشان أشوف سبب التأخير ليه، لقيت واحد جاي يقول لي المياه في الفيلم ترمز لإيه؟ والثاني يقول له لا الشمس ترمز لإيه؟ المياه مياه والشمس شمس، هم ابتدوا يفكروا إن كل لقطة وكل شخصية ترمز لحاجة وكانوا رافضين يكتبوا تقرير لأن الفيلم قطاع عام»
العدد 1503 - الثلثاء 17 أكتوبر 2006م الموافق 24 رمضان 1427هـ