العدد 3598 - الجمعة 13 يوليو 2012م الموافق 23 شعبان 1433هـ

اللهجات الحضرية وحرف النون

تناولنا في سلسلة سابقة التطور الدلالي بالتفصيل وقد تناولنا فيه التطور الدلالي لأسماء الأسماك وأسماء الطيور في مملكة البحرين والخليج العربي بصورة عامة، وهنا سنتناول نوعاً آخر من التطور وهو التطور الصوتي، سنتناول بعض آليات التطور الصوتي وهي آليات مهمة ستمكننا من معرفة النظريات المختلفة التي وضعت لتفسير خصائص اللهجات العربية المحكية، الحضرية منها وذات الأصول القبلية.

من السهل دراسة آلية معينة من آليات تطور اللغة ولكن تطبيقها صعب وذلك بسبب تعقيدات اللهجات المحكية الحالية فهناك نوع من التفاعل يحدث بين آليات التطور المختلفة، فيمكن أن تكون لفظة واحدة تعرضت لتطور صوتي وتطور دلالي بحيث حدث لهذه اللفظة تغير كبير من حيث الشكل والمعنى ما يجعل البعض يشك في أنها متطورة من لفظ عربي. في هذا الفصل سنتناول إحدى آليات التطور اللغوي وهي التغاير أو المخالفة، وسنركز على حرف النون لما له من أهمية كبيرة في اللهجات الحضرية؛ فهناك ارتباط شديد ما بين حرف النون واللهجات الحضرية التي تنتمي لها اللهجة البحرانية، فاللهجات الحضرية تحب أن تقحم هذا الحرف في العديد من التراكيب كصيغ التصغير والأسماء والأفعال وكذلك كأحد حروف المخالفة الأكثر شيوعاً، ويعتبر حرف النون الحرف الأكثر إقحاماً في التراكيب اللغوية في اللغة العربية وكذلك في اللغة السامية من مثل الآرامية والأكدية بشقيها البابلي والآشوري.

يذكر أن الباحث السيدشبر القصاب في سلسلة دراساته عن اللهجات في القطيف التي نشرها في مجلة «الواحة» أطلق على مستخدمي اللهجة الحضرية مسمى «من يثبت النون» وأسمى مستخدمي اللهجات القبلية «من لا يثبت أو يحذف النون» وسنلاحظ هذه النقطة بوضوح في الفصول القادمة عند المقارنة بين اللهجات الحضرية والقبلية.

التغاير أو المخالفة

في اللهجات العربية المحكية تستخدم العامة آليتين، على الأقل، من آليات المغايرة، الأولى وهي التي ذكرها عبدالعزيز مطر في كتابه «لحن العامة» وهي: «حدوث اختلاف بين الصوتين المتماثلين في الكلمة الواحدة ويحدث هذا الاختلاف في الكلمة المشتملة على التضعيف بأن يتغير أحد الصوتين المضعفين إلى صوت لين طويل أي واو المد أو ياء المد أو ألف المد أو إلى أحد الأصوات الشبيهة بأصوات اللين وهي المسماة بالأصوات المائعة وهي اللام والنون والميم والراء» (مطر 1981، ص 259).

والثانية هي ما ذكرها العبيدي في كتابه «معجم الصوتيات» وهي: «تكرار الفاء في المضعف في نحو: جرَّ وصرَّ وخضَّ وكرَّ وقهَّ، فتصبح: جَرْجَرْ وصَرْصَرْ وكَرْكَرْ وقَهْقَهْ» (العبيدي 2007، ص 170).

سنعطي هنا نوعين من الأمثلة للمخالفة، أمثلة بسيطة مباشرة، وأمثلة معقدة يتفاعل فيها قانون المخالفة مع قوانين صوتية أخرى كالإبدال وقوانين التطور الدلالي كالتعميم والتخصيص.

أمثلة منخفضة التعقيد

من ذلك قول العامة ترنج بدلاً من أترج بقلب أحد الراءين نوناً، وحذف الألف للتسهيل. وقد وردت كلمة ترنج في كتب اللغة. كذلك تقول العامة القمبار (الگمبار) أو القمبارة وهي شدة من سعف النخل يشعل في رأسها النار ويُدخل بها البحر لاصطياد السمك، وجاء في القاموس المحيط «القبار سراج الصائد بالليل» ما يدل على أن كلمة قمبار محرفة عن قبار بمبدأ المخالفة. كذلك قول العامة «عنفص» وهي من عفص، ومعانيها عند العامة مقاربة لما في الفصحى، جاء في تاج العروس مادة «عنفص»: «قال اللَّيْثُ: هِيَ (المرأة) القَلِيلَةُ الجِسْمِ. وقال ابنُ دُرَيْد: هِيَ الكَثِيرَةُ الحَرَكَةِ في المَجِيءِ والذَّهابِ. يُقَال: هي «الدَّاعِرَةُ الخَبِيثَة»... قال ابنُ عَبّادٍ: هي «القَصِيرَةُ». وقالَ ابنُ السِّكِّيت: هي «المُخْتَالَةُ المُعْجبَةُ». قال ابنُ فارِسٍ هو من عَفَصْتُ الشَّيْءِ، إِذا لَوَيْتَه، كأَنَّهَا عَوْجَاءُ الخُلُقِ، وتَمِيل إِلى ذَوِي الدَّعارَةِ... العِنْفِصُ أَيضاً: السَّيِّئُ الخُلُقِ» من الرِّجال... والتَّعَنْفُصُ: الصَّلَفُ، والخِفَّةُ، والخُيَلاَءُ، والزَّهْوُ».

ومن الأمثلة متوسطة التعقيد قول العامة غرنابيط أو قرنابيط (عند من يقلب الغين قاف) بدلاً من قنبيط، فالذي حدث هو تحويل أحد النونين الى راء (وهو أحد الحروف المائعة) بمبدأ المخالفة ثم تم إشباع الفتحة فوق النون حتى صارت ألف (مبدأ الإشباع) فبذلك تحولت الكلمة إلى قرنابيط. وقد ورد في كتب اللغة قنبيط وقرنبيط أي بالمخالفة فقط من دون الإشباع.

تفاعل المخالفة والتخصيص

يحدث أن يتم تغيير لفظ معين بالمغايرة ولكن تحتفظ العامة بكلا اللفظين الأصلي والمطور ولكن لكل لفظ معنى مختلف عن الآخر، ومن أمثلة ذلك ما يأتي:

فقش وفنقش

تقول العامة فقش (فگش) فلان البيض أي كسره وفنقش فلان أي مات، وأصل اللفظ في اللغة العربية فقس فلان البيض كسره وفقس فلان مات أي بالسين ومن دون إقحام النون، وذكر بالشين أيضاً ولكن لا وجود للفظة فنقش وإنما هي متطورة من الأصل فقش مع تخصيصها لمعنى الموت، جاء في معجم تاج العروس (مادة فقس): «فَقَسَ الرَّجُلُ وغَيْرُه يَفْقِسُ فُقُوساً، مِن حَدِّ ضرب: ماتَ، وقيل: ماتَ فَجْأَةً. وفَقَسَ الطَّائِرُ بَيْضَه فَقْساً: كَسَرَهَا وفَضَخَهَا وأَخْرَجَ ما فِيها، أَو أفْسَدَها».

وذكرت أيضاً بالشين أي فقش البيض «فَقَشَ البَيْضَةَ يَفْقِشُهَا فَقْشاً... أَيْ فَضَخَها، وكَسَرَها بيَدِهِ، لُغَةٌ في فَقَسَهَا» (تاج العروس مادة فقش).

خفس وخنفس

تقول العامة خفس الرجل العلبة أي خسفها أو أتلفها، وأصل الخفس في اللغة بمعنى الهدم. وتقول العامة خنفس الرجل أي قطب وجهه، وأصل اللفظة من العربية من خفس، إلا أن النون أقحمت بالمخالفة وتم تخصيص اللفظة بمعنى آخر، جاء في تاج العروس مادة (خنفس): «خَنْفَسَ الرَّجُلُ عن القَوْمِ خَنْفَسَةً، إِذا كَرِهَهُم وعَدَل عَنهُم، عن أَبِي زَيْدٍ، وكذا خَنْفَسَ عن الأَمْرِ، إِذا عَدَلَ عنه، والنُّونُ زَائِدَةٌ، ولِذا ذَكَرَ الصّاغَانِي غالِبَ هذِه المادّة في خ ف س».

طمَّ وطَمْطَمْ وطَمبل

تقول العامة طَمْطَم فلان الكأس أي ملأه (بالماء)، وأصله من طمَّ، جاء في لسان العرب مادة (طمم): «طَمَّ الماءُ يَطِمُّ طَمّاً وطُمُوماً: عَلا وغَمَر. وكلُّ ما كَثُرَ وعَلا حتى غَلَب فقد طَمَّ يطِمُّ. وطَمَّ الشيءَ يَطُمُّه طَمّاً: غَمَره».

أما التعقيد الذي حل بلفظة «طمَّ» فهو تحويلها بالمخالفة إلى «طمل» بإضافة اللام، ثم أضيف حرف الباء بعد الميم فأصبحت «طمبل» ثم خصصت اللفظة لتعني ملأ البطن، فتقول العامة: «طمبل بطنه ماي» أي ملأ بطنه بالماء. وإضافة حرف الباء بعد حرف الميم ليس بالغريب في اللهجات الحضرية، ففي شرق الجزيرة العربية يسمى طائر التمّرة في بعض النواحي كالقديح «تمبرة» بإضافة الباء بعد الميم (القصاب 2003، الواحة ع 29)، وفي البحرين وعمان تسمى سمكة التُن (أي التونة) التبن أي بإضافة باء قبل النون (راجع سلسلة معجم الأسماك)، وفي مصر يسمى الأربيان جَمَّري وجَمبري (المعلوف 1985، ص 228).

إضافة النون في صيغ التصغير

في اللغة الآرامية تستعمل اللاحقة «وّن» أو «وّنة» للتصغير والغرض من هذا التصغير التحبب (Holes 2002) وهذه اللاحقة تستعمل في اللهجات الحضرية للتصغير أيضاً ولكن في الغالب يكون غرض التصغير هنا التحقير، من أمثلة ذلك: تشونة أو طشونة (بمعنى قليل من الطش أي المطر القليل)، ورِيحّونة (من رِيحَة أي قليل) وشويّونة (من شوية أي قليل) وحَبّونة (من حبة أي بذرة)، وعِنْچِـوانة (من عِنچِـوة وهي العُكْوَة أي أَصلُ الذَّنَب)، وفي اللهجة العراقية يقال زْغَيرون أو صْغَيرون (أي صغير).

العدد 3598 - الجمعة 13 يوليو 2012م الموافق 23 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً