العدد 3619 - الجمعة 03 أغسطس 2012م الموافق 15 رمضان 1433هـ

شقوة النص وانفجار اللغة

قراءة لديوان «كأعمى تقودني قصبة النأي»

أجمل وعد يتحقق قولاً لا فعلاً هو الشعر، إذ يظل مفتوحًا دومًا على الاحتمالات: احتمالات التأويل وعرامة التلقي. ومن ثم لا يحق لأية قراءة أن تدعي تمام الفهم والإحاطة والوعي بالألم العبقري للكلمة والحدس المتوثب للإبداع. ولعل السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه مع كل نص نقرؤه في الديوان الذي نحن بصدده الآن: إلى أي حد يحقق النص أو الديوان تفرده من خلال أدبيته؟

إننا في هذا الديوان لا نبحث عن القراءة المطلقة بل عن محاولات الاختراق للتقاليد وتأسيس الصوت الخاص؛ ذلك لأن النص تعددي لا يحيل إلى معنى معين، فهو انتشار للمجاز وشبكة رمزية تتولد باستمرار.

يضم الديوان 16 قصيدة، وليس بين أيدينا ما يشير إلى زمن إبداعها، ومن ثم فقصائد الديوان تخلو من أية هوامش سياقية تحدد زمن الكتابة ومكانها، بحيث تسعف القارئ على تمثل دلالات القصائد واستيعاب خلفياتها المعرفية، ويبدو أن الشاعر عمد إلى ذلك ليترك مساحة انفتاح لنصه حسبما يقول:

فِي شَقْوَةِ الجَنَّاتِ عَارِيَةَ النُّضُوجِ

فَلَا زَمَانَ وَلَا مَكَانَ

(القصيدة؛ يقظة الغيظ في يد الموت)

فالقصيدة تتخلق من وجهة نظر الشاعر في لحظة إنسانية مجردة من الزمان والمكان، يقول في النص نفسه:

تَأْخُذِينَ الشَّاعِرَ مِنْ زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ،

لِيَلِدَكِ بَعْدَ حَرَكَاتٍ شِبْهِ عَابِثَةٍ،

وقد استعار الشاعر عنوان الديوان «كأعمى تقودني قصبة النأي» من إحدى شطرات قصائد الديوان، وهو عنوان دال لا يخلو من الشاعرية والتصوير الحي، فالأعمى دائمًا يتحسس فقط موضع عصاته التي يتكئ عليها، وينتقل من خلالها من موضع صغير إلى موضع آخر إذ لا يرى الصورة أو المشهد كلية، وينعكس ذلك جليًّا في قصائد هذا الديوان التي تبدو مواضع أو مقاطع مكثفة، يحمل كل مقطع كلمة مفتاحية بارزة، وله سياقه الخاص، ما استدعى أن تكون البداية غير معربة تمامًا عما بداخل النص وكسر الترتيب الشعري، فلم يعد النص له بداية أو نهاية؛ فالدخول إليه ممكن من أية وجهة شئنا. حقيقة أن هناك إطارًا كليًّا يحتوي مجموعة المقاطع الشعرية (حيث تنتظم المقاطع في النهاية كبنية واحدة)، لكن الكلية هنا لا تلغي الانفصالية بحال من الأحوال، بل تعمل على تأكيدها كنوع من الإشارة إلى تمزق العلاقات داخل الواقع في مجمله عند الشاعر.

ولنقف عند بعض النماذج الدالة على ذلك: (مقاطع من قصيدة: غيمة تمطر لأعلى)

احْتِمَالٌ

قُطْنُ الغَيْمِ

يَحْمِلُ قَلْبَ عَاشِقٍ

وَلَا يَحْمِلُ قَمَرًا.

وَمِيضٌ

فِي عَتْمَةِ الخَرِيفِ

تَكْفِي زَهْرَةُ يَاسَمِينٍ

كَيْ تُضِيئَهُ حَدِيقَةً.

نَدَّاهَةٌ

لَا صَوْتَ... لَا صَدًى

فِي هَدْأَةِ النَّوْمِ هذِهِ

سِوَى رَنِينِ نَحْلَةِ الشَّوْقِ.

(مقاطع أخرى من قصيدة: كقيثارة تشغل أصابعي)

إِيقَاعٌ

سَائِرًا فِي بُسْتَانِ الفِتْنَةِ

يَسَّاقَطُ عَلَيَّ شَرَرًا

إِيقَاعُ عُرْيِ الثَّمَرِ.

لَهْفَةٌ

كَقِيثَارَةٍ تُشْعِلُ أَصَابِعِي

تَتَلَهَّفُ الأَوْتَارُ لِاحْتِرَاقِهَا

هكَذَا هِيَ.

عَمَاءٌ

فِي الحُلُمِ تَرَى أَكْثَرَ

فِي الحَقِيقَةِ عَمًى

فِي اللَّذَّةِ.

وهنا يمكن القول إن الشاعر يعتمد في تجربته على التجريب الشكلاني والتكثيف اللفظي الدال، ما يجعل الجملة لديه تتميز بقدر كبير من التلاحم الذي يحتاج إلى قدر أكبر من الجهد لفك تداخلاتها وتأملها:

(مقطع من قصيدة: شرهان تائهان في حلولهما)

تَأَمُّلٌ

وفي مقابل ذلك فإن التماسك الرأسي أو الروابط الرأسية بين المقاطع توشك أن تنعدم، وهو ما يدعو أساسًا لاعتماد المستوى الأفقي (الجملة شفرة الدلالة) ونحن لا ننكر التكثيف، أو أن تكون الجملة مؤشرًا فاعلاً في الدلالة يعود لموقف شكلاني من هيكلية القصيدة، وبمعنى آخر فإن الشاعر– مهما حاول تقريب التجربة لذاته الخاصة– يخضع في تجربته لأنموذج شكلاني يسبق العمل بوصفه هيكلاً تملأ فراغاته القصيدة.

بيد أن شعرية هذا الديوان تتحقق في إزاحة اللغة عن طريقتها الإخبارية الإعلامية بتحويلها من الخبر إلى الإنشاء، من السياق الموغل في المباشرة إلى غياب الصورة الكلية وحضور جزئياتها، فلغة هذا الديوان تلهث بالبحث عن صيغة لغوية طافرة ومغايرة يري فيها الشاعر صورته وجسده، ويبوح بمواجعه الذاتية والإبداعية، إذ يهيب الشاعر بلغته أن تتناثر وتتفجر في جسده لا في فكره ووجدانه فحسب، ومثال ذلك:

(مقاطع من قصيدة: رذاذ جريح حين أشهق عصفورة الظل)

الجَسَدُ جُرْحٌ عُضَالٌ

أَرْمِي فِيهِ بِهَارًا لِدَمِي

فَيُوقِظُ مَاءَ الغَيْبُوبَةِ.

سَاقَانِ مِنْ غَسَقٍ لِلْقَصِيدَةِ

زَائِغَتَانِ لِأَعْلَى

كَيْ تُهْبِطَ نُجُومَ إِيقَاعِي.

* * *

مَا مِنْ نَهْدٍ كَرِيمٍ

يَرْتَعُنِي/ يَرْضَعُ سُحُبَ نَثْرِي

مِنْ مُعَلَّقَةٍ فَتَّانَةٍ تَتَدَلَّى.

(مقطع آخر من قصيدة: كم ساقًا أتخايل كي أصل الشهقة)

خَصْرِي مَسْدُولٌ أَعْلَا/ كَ

كَفَاكَ سَتَائِرُ زَوْبَعَةٍ تَطْرِفُ عَيْنِي

أَدْخُلَُ لُغَةً مِنْ قَطْرٍ مُرٍّ

يَحْتَكُّ حَرِيرُ الحَرْفِ بِضِلْعِ حَنِينِي

فالشاعر اتخذ في هذا الديوان من الجسد الإنساني (بشقيه ذكرًا وأنثى) مردودًا جوهريًا للتجربة الشعرية، حيث يغوص في معالم الجسد ومكامن ذاته، إذ أصبح الخطاب موجهًا فحسب إلى الأنا التي تتطوح بين جسدها وجسد الأخرى (الأنثى) الحاضرة في معظم القصائد، سواء بالإشارة إلى الجسد ككل، أو لأعضائه المنتشرة في حواس الشاعر الذي يرى العالم بفحولته وشبقيته، ويتحرك مع الكائنات، مع اللحظات، مع الأشياء في مدار كوني كينوني واحد، مثال:

(مقاطع من قصيدة: لا جداولي تملؤها ولا بئرها تلقيني)

بَزَّتْ نُوَّارَتُهَا نُوَّارَتَيْهَا فِي عَلٍ

كَأَنَّهُم ثَلَاثَتُهُمْ

حَوَافُّ هَرَمٍ فِي اكْتِمَالِ فُحْشِهِ

تَتَسَرْبَلُ هَنْدَسَتُهُ فِي قُمْعِ دُوَارِي.

بَيْنَنَا أَقَلُّ مِنْ نَهْدَةِ الأَعْضَاءِ

وَنَدْهَةِ الصَّوْتِ فِي الحَلْقِ

فَوْقَنَا حَقْلُ تَأَوُّهَاتٍ

وَمِنْ أَسْفَلَ مِنَّا غُيُومٌ مُعَطَّلَةٌ.

* * *

أَرِيكَةٌ ضَيِّقَةٌ لَا تَسَعُ كُرَةَ أَرْضِ خَلَجَاتِنَا

نَثَرَتْ وَسَائِدَهَا كَأَوْرَاقِ رُزْنَامَةِ الفَقْدِ

: هَيَّا فَوْقَ صَهْوَةِ الصَّدرِ وَافْتِرَاقِ السَّاقِ

هكَذَا شَاءَ قَوْسُهَا، فَشَاءَ سَهْمِي.

ولقد اتكأ الشاعر في صياغة بعض نصوص ديوانه على التراث بشكل ملحوظ، فهو يتناص مع القران الكريم، والكتاب المقدس، حيث يميل إلى استحضار التراث واستنطاقه من خلال رؤية مغايرة ودلالات متفاوتة تعمل على إثراء النص الشعري لدى المتلقي، ويتضح هذا في (القصيدة، يقظة الغيظ في يد الموت):

لَا تَكُفِّي عَنْ فِتْنَةِ الشَّاعِرِ..

لَقَدْ ضَلَّ صَاحِبُكِ وَغَوَى،

فَهَوَى عَالِيًا إِلَى سَرِيرِكِ النَّجْمِيِّ.

فالشاعر يستدعي قول الله تعالى من سورة النجم: «وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى».

وكذلك يستدعي قول السيد المسيح في القصيدة السابقة نفسها:

«مَنْ مِنْكُمْ بِلَا خَطِيئَةٍ»

فَلْيَرْمِ مَهْدَ الخِيَانَةِ بِحَجَرٍ كَرِيمٍ

لِيَشُجَّ رَأْسِي.

ومن ثم يتحد النص الشعري مع النص القرآني أو المقدس ليصبح النص الشعري أشد وقعًا وأبلغ تأثيرًا على المتلقي بصفة خاصة ما يجعل النص بؤرة مزدوجة على أساس أن ازدواج البؤرة هو الذي يلفت اهتمامنا إلى النصوص الغائبة والمسبقة؛ فالتناص في هذا الديوان ليس مجرد لون من توصيف العلاقة المحددة التي يعقدها نص ما بالنصوص السابقة عليه، ولكنه يتجاوز ذلك إلى تحديد إسهامه في البناء الاستطرادي والمنطقي لثقافة ما لدى الشاعر.

كما نر في نصوص الديوان لغة أو أسلوبًا مشوبًا بصوفية تدل عليها هذه الصور والتعبيرات من (القصيدة؛ يقظة الغيط في يد الموت):

تُشْبِهِينَ الحُبَّ جَيِّدًا؛

قَلَقُ القَلْبِ..

تَوَتُّرُ الرُّوحِ..

رَجْفَةُ الجَسَدِ..

خَوْفُ الغِيَابِ..

سَهَرُ الظَّنِّ..

هَزَّةُ الشَّكِّ..

نَظْرَةُ الغَيْرَةِ..

مَلَلُ الأَمَلِ..

أَلَسْتِ مَنْ عَلَّمَ الشَّاعِرَ

- أَوَّلَ الكَائِنَاتِ الجَمِيلَةِ-

هذَا المُعْجَمَ؟

وهذه الشعرية اللغوية ذات الخصوصية هي أحد هموم هذا الديوان في تطلعه للمغايرة واستكشاف بصمته، وشعريته، واستقلاليته.

العدد 3619 - الجمعة 03 أغسطس 2012م الموافق 15 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً