العدد 3688 - الخميس 11 أكتوبر 2012م الموافق 25 ذي القعدة 1433هـ

هوس محاربة الإيديولوجية

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

لا تخلو بلاد العرب في جميع الأوقات من وجود هوس جنوني بكلمة أو بفكرة أو بشعار. في أيامنا الحالية يتركَّز ذلك الهوس في حملات إعلامية تجريحيَّة لا تتوقَّف حول المفهوم السياسي القديم الشهير المعبَّر عنه بكلمة الإيديولوجية. والواقع أن هذه الحملة، التي رعتها دوائر إمبريالية وصهيونية وعربية استبدادية، بدأت في سبعينات القرن الماضي حال حدوث الانتكاسة الكبيرة لأيديولوجية القومية العربية، وبالأخص في صورتها الناصرية. وكان الهدف واضحاً: إذا اقتنعت الشعوب العربية بعدم حاجتها لأية إيديولوجية، وبأن الإيديولوجية القومية كانت وراء الانتكاسات، قادها ذلك إلى هجرها للقومية العربية.

وهذا بدوره سيقود إلى محو الشعارات القومية، وعلى الأخص الوحدة العربية وتحرّر الوطن العربي، من الذاكرة الجمعية للأمة العربية، ومعها محو صورة أبرز قائد ناضل من أجلها، الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. ولقد ساعد على ذلك انقسامات وصراعات الحركات والأحزاب القومية وفشلها الذريع في تكوين كتلة تاريخية لمراجعة ومعاودة طرح تلك الإيديولوجية في الساحة السياسية العربية.

وعندما تمكنت قوى التوجُّهات القطرية المنغلقة على نفسها، والمرتهن بعضها للإستراتيجية الإمبريالية الأميركية ـ الصهيونية الرافضة لأي توجُّه وحدوي عربي، عندما تمكّنت من استلام الحكم في بعض الأقطار المفصليّة، وعلى الأخص مصر، هدأت الحملة الإعلامية تلك. ذلك أنه خُيّل لحاملي ألويتها في الخارج والداخل بأن الجماهير العربية قد قبلت قدرها بالعيش في ظلال حكومات استبدادية انتهازية فاسدة لا تؤمن بأيّ التزام قومي، حتى في حدوده الدُنيا.

لكن حيويّة وشجاعة ونقاء شباب ثورات وحراكات الربيع العربي فاجأت الجميع. لقد كان واضحاً أنها تطرح مبادئ وشعارات منبثقة من عدة ايديولوجيات عرفها الوطن العربي وعرفها العالم عبر القرن العشرين. كانت هناك شعارات إيديولوجية سياسية واقتصادية، إسلامية وقومية وليبرالية واشتراكية. فشعارات الكرامة الإنسانية والحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والصوت المدويّ بأن «الشعب يريد...» هي مبادئ وقيم وأهداف في صلب تلك الإيديولوجيات. وهي شعارات تلتحم مع بعض ما طرحه التيار القومي الهادر في خمسينات القرن الماضي، وبالتالي يمكن أن تكون مدخلاً لتجديد ذاكرة الأمة التي أريد لها أن تنسى.

من هنا الرجوع والتجديد للحملة الإعلامية السابقة ضد مفهوم الإيديولوجية ومحاولة جعل الشعارات التي طرحها شباب الثورات شعارات منفصلة عن بعضها البعض، متنافسة في سلَّم أولويَّتها، غير قابلة لطرحها كايديولوجية جماهيرية شاملة متماسكة، كمشروع تحرر ونهوض، يعمل من أجلها الإسلاميون والقوميون والليبراليون والاشتراكيون في حراك تاريخي متناغم بعيد عن الانغماس في الخلافات الفرعية والهامشية، ويقدّم الجميع المشترك على كل تباين إلى أن يندحر المشروع الإمبريالي الصهيوني وتُّجتثُّ جذور الاستبداد من الحياة السياسية العربية وتعلو راية العدالة لتشمل الجميع.

لا يمكن أن نلوم الدوائر الإعلامية الإمبريالية في محاولاتها لجعل الحياة السياسية العربية خاويةً من مشروع نهضوي كبير ينطلق من مبادئ وقيم إيديولوجية تحكم مساره وتبعده عن التشويه والسرقة من قبل هذا النظام السياسي أو ذاك. لكن العتب على بعض العرب الذين ينجرفون في هذه الحملة. ذلك أن الحياة السياسية الديمقراطية، إن لم تتفاعل وتتنافس فيها مختلف الإيديولوجيات، تصبح عبارة عن نشاطات اعتباطية لأصحاب مصالح، غير مترابطة ولا مكمّلة لبعضها البعض ولا يمكن تقييمها بالرجوع إلى مبادئ وقيم وأهداف بعيدة المدى.

نحن هنا لا نتكلم عن إيديولوجيات قابلة للانحراف نحو الاستبداد الشمولي كما حدث للستالينية في الاتحاد السوفياتي السابق أو النازية في ألمانيا. ولا عن الإيديولوجية المتزمتة التي لا تتفاعل مع غيرها ولا تعدّل شعاراتها ولا تراجع مساراتها ولا تتطوَّر مع تغيُّرات الأزمنة وتبدُّل العصور. نحن نتحدّث عن عكس كل ذلك.

نحن على علم بتيارات ما بعد الحداثة في الغرب الذي يرفض أية إيديولوجية ويريد أن توجد حياة نسبية منفلتة من أي قيم جمعية تضبط المجالين العام والخاص. لكن الغرب حقّق حداثته ويستطيع التفكير فيما بعدها، أما نحن فلم نحقّق حداثتنا.

مطلوب من قادة الثورات والحراكات العربية العمل ليل نهار لبناء ديمقراطية صلبة مهتمة بالتقدم والسُّمو الإنساني وبالصالح العام. إن تحقيق ذلك يحتاج إلى تفاعل وتنافس سلمي بين إيديولوجيات تطرح مشاريع إنسانية شاملة متكاملة مرنة تخدم الجميع وليس لنتف من أفكار وتهويمات مؤقّتة تخدم مصالح هذه الفئة أو تلك.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 3688 - الخميس 11 أكتوبر 2012م الموافق 25 ذي القعدة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 10:48 ص

      أين هي الايدلوجيات التي حوربت؟

      سعادة الدكتور العزيز،
      بعد التحية وخالص الاحترام...
      حاولت ان اتعرف على الايدلوجيات التي حوربت من الامبريالية والمنبثقة عن الربيع العربي فلم اتعرف عليها. الوحيدة التي وجدتها هي الايديولوجية الدينية ذات النزعات المتسلطة والاستبدادية وهي ايديولوجية لم تحارب حتى الان من الغرب. وطبعا غابت عن الساحة الايديولوجيات التقليدية كالقومية والشيوعية. اما الايديولوجية القومية فلم تسقط بسبب محاربة الغرب ولكن بتحولها لانظمة استبدادية واستحواذ زعماؤها على الثروات وتحولهم لملوك اي بسبب فشلها

    • زائر 4 | 6:37 ص

      ليش يادكتور

      ماتتحدث ما يجرى في وطنك وفي شعبك المناضل الشريف الصامد

    • زائر 3 | 4:08 ص

      ثورات طوت صفحات ... وبدأ ت تاريخ متحرر

      قال تعالى"الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا"فقد لعبوا على مسرح الزمن وحشّدو طاقات الهمج-كلها مظاهر وثمثيل- فشكّلوا هرماً من ثلاث زوايا المال والإعلام والإرهاب،صرحوا،وصاحوا،وتوعدوا،فدللوا على نقص معيب في مفهوم الأيديولوجية و فوضى في الحكم وبلبلة في الأنظمة وحيرة في التوجيه حتى استيقظت الثورات"وبروح العصر"وحلّت بالمستبدين-طوي ببعضهم إلى أردى مآل- فكان ارتقاب العدل من هؤلاء"عبث"وتحياتي لكم ... نهوض

    • زائر 2 | 2:45 ص

      نحتاج الى مشروع فكري جديد

      هل يمكن للدكتور أن يطرح مشروع ريادي يستطيع ان يجمع عليه فرقاء الوطن ويكون منطلقاً لمشروع عالمي يحقق الامن والسلام لجميع شعوب العالم

اقرأ ايضاً