العدد 2478 - الجمعة 19 يونيو 2009م الموافق 25 جمادى الآخرة 1430هـ

قبل أن تكون أداة للحكم هي نمط حياة وثقافة

«الوسط السياسي» يحاور الباحث والأكاديمي باقر النجار صاحب كتاب «الديمقراطية العصية»

حين يذهب الباحث في علم الاجتماع والأستاذ الأكاديمي بجامعة البحرين باقر النجار إلى الحفر في مفهوم الديمقراطية العصية عبر كتابه الفائز بجائزة زايد للكتاب فإنه يستثيرنا لنطرح عليه مجموعة من الاستفهامات، بعد أن عاد من رحلته في البحث بشأن تعصّي الديمقراطية، فهل تتعصى الديمقراطية علينا حتى نعذر أنفسنا أم نحن المتعصون عليها فنوجّه اللوم لأنفسنا، ولماذا كلما أتتنا موضة جديدة من التحديث روضناها حتى لم تعد شيئا، وهجّنّاها حتى أصبحت كائنا «مثلها مثلنا تماما»، ما مدى استجابة الأنظمة العربية للديمقراطية، هل يستطيع مفهوم «المجتمع المدني» اسيعاب تفاصيل العرب، وهل للعرب خصوصية اجتماعية تمنعهم من التحديث المجتمعي، وما دور المفاهيم القبلة بأشكالها المختلفة في منع الديمقراطية عربيا، ما سر تعصي المجتمع العربي على الديمقرطية، هل لأن المجتمع العربي عصي على التحديث، هل مازالت طبائع الاستبداد متأصلة في المجتمع العربي، ما طبيعة بنية المجتمع العربي بحيث تمنعه من الديمقراطية، إلى أي مدى استطاع المجتمع العربي في تحولاته المختلفة القرب من الديمقراطية، هل من فصيل سياسي أو اجتماعي أو ثقافي عربي كان قريبا من الديمقراطية، وهل يمكن فرض الديمقراطية عبر القادم من الخارج المحتل، المثقف، الآخر، أيا كان، وهل ما زالت البيئة العربية تعد بالفارس الحامل لواء الديمقراطية، هل للتجارب السياسية المحيطة بالمجتمع العربي دور في تعصي الديمقراطية على الخليج، ما مصدر التعصي على الديمقراطية، السلطة، الناس، الجينات، الثقافة، الدين، المكان الآخر. هكذا ذهبت بنا الأسئلة للباحث باقر النجار فكانت هذه المقابلة.

* ما مدى استجابة الأنظمة العربية والخليجية لمسألة الديمقراطية؟

- مسألة الديمقراطية لم تعد خاصة بإقليم بل أصبحت سمة عالمية، وذات صبغة كوكبية والاستجابة إليها بدرجات، ولا نستطيع التعميم بذات القدر، والاستجابة العربية مقارنة بالأقاليم الأخرى على مستوى العالم هي أدناها إذا ما استثنينا بعض الحالات، وتحديدا الحالات التي اعتبرها محدودة من حيث تبنيها لمسألة الديمقراطية، ولا محوريتها على المستوى العربي تجعل من تعميم التجربة على مستوى المنطقة العربية ذات حدود وأفق لا يبدو أنه متسع، وخصوصا إذا تجاوزنا الثمان سنوات الماضية مع مجيء حكومة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية وطرح مسألة دمقرطة المجتمعات العربية، فقبل ذلك كانت الطروحات تأخذ بمدى إمكانية أن تكون المنطقة العربية مشابهة لأوروبا الشرقية في التسعينيات من القرن الماضي، كل هذه الطروحات لم تساهم في أن تكون الديمقراطية كعملية سياسية أداة للحكم في المنطقة العربية على مستوى واسع، وإذا ما نظرنا إلى الحالة العربية وفق التقارير الدولية سنجد أن المنطقة العربية لم تساهم في إعادة إنتاج مفهوم الديمقرطية فحسب بل حتى مفهوم المجتمع المدني ودوره في التحول السياسي ومفهوم حقوق الإنسان، ومفهوم الشفافية هي الأخرى تم تفريغها من محتواها الحقيقي في بعض حالات المنطقة العربية وسنجد أن دول المركز العربي قد استطاعت إنتاج هذه المقولات بالصورة التي لا تجلب لها أي شكل من أشكال الضرر كجماعات سياسية.

* وفق ما ذهبتَ إليه من أن العرب يعيدون إنتاج المفاهيم السياسية، هل يبحث العرب عن نموذج خاص بهم في الديمقراطية، وإلى أي مدى استطاع العرب بناء نموذج، وهل ما نعيشه عربيا من حالة تلفيق الديمقراطية هو مسألة مزمنة أم مرحلة عابرة؟

- على رغم أن الديمقراطية كما يقولون ليست الحل السحري لمشكلات الحكم في العالم إلا أن التجارب أثبتت التجارب أنها أفضل الحلول في تجاوز معضلات العلاقة بين الحكم والمجتمع. إذ يستطيع المجتمع من خلالها تجاوز المعضلات الاقتصادية والتحول السياسي والاجتماعي والثقافي، وان الكثير من الأوروبيين كانوا يتوقعون أن حالة تتابعية من سقوط الأنظمة الأوروبية ستكون لها ما يشابهها في الحالة العربية وأثبت الإقليم العربي أنه عصي على التحول الديمقراطي، ليس لأن أنظمة الحكم العربية ممانعة، بل لأن قوى التغيير في العالم العربي لم تتجذر فيها بعد وبدرجة كبيرة ثقافة الديمقراطية والتي قبل أن تكون أداة للحكم والإدارة، نمط حياة وثقافة، وأنا أشك أنها متأصلة في المجتمع العربي بل هي ليست متأصلة بشكل متجذر في القوى الداعية لعملية التغيير والدمقرطة، ومسألة تداول السلطة وهي مفصل أساسي ليست متجذرة حتى عند الماسكين بزمام السلطة ولا متمفصلة عند الداعين للتحول الديمقراطي، فأوروبا الشرقية يُسر لها أن تتحول لأن الديمقراطية كثقافة حامية للفرد والمجتمع ومتغلغلة في المجتمعات الأوروبية، وحتى المجتمعات التي خضعت لأشكال من الحكم أثبتت إلى حد كبير أن لها قدرة على التكيف مع مسألة الديمقراطية وتداول السلطة.

بل أقول إن التجربة التركية وهي واحدة من أهم التجارب الإسلامية في مسألة تداول السلطة قد يُسر لها أن تأخذ هذا الدور والمكانة عربيا وإقليميا، بفعل تجذر مسألة الديمقراطية عند ممارسي ومتعاطي السياسة داخل المجتمع التركي، بما فيهم القوى الإسلامية الحاكمة، والتي أثبتت قدرة على القبول بفكرة الديمقراطية في الحكم، وعلى القبول بنتائج صناديق الاقتراع وتداول السلطة وهذا ما حمى الديمقراطية التركية من السقوط كفريسة من قبل جماعات العسكر ومن قبل كذلك الجماعات اليسارية والإسلاموية المتطرفة.

* هل تستطيع مفاهيم المجتمع المدني ومؤسساته المتعددة استيعاب تفاصيل المنطقة العربية والخليجية بالتحديد؟

- صحيح أن لدينا تجربة في العمل الأهلي منذ قرن من الزمان وتحديدا في مجتمعات مثل الكويت والبحرين إلا أن مطابقة المجتمع الأهلي بالمجتمع المدني لا تبدو في الحالة الخليجية متطابقة، فنحن لدينا مجتمع مدني في طور التشكل والنمو وتحديدا في الكويت والبحرين، وإنه ذو قدرة على إحداث التغير، وفي حالات قليلة فرض إرادته على السلطة ولو أن تأتي إجابة السلطة متأخرة بعض الشيء إلا أننا لا نستطيع أن نماثل الحالة الخليجية العربية بالحالة القائمة في المجتمعات الديمقراطية والتي تكتسب فيها السلطة شرعيتها من خلال المجتمع المدني، والتي بفعل ذلك يتمتع المجتمع المدني فيها بقدرات تأثيرية كبيرة على صناعة القرار.

* ألا تعتقد أن مفهوم المجتمع المدني عربيا هو أقرب للعمل التطوعي الأهلي منه إلى مؤسسات مجتمع مدني تمارس نوعا من المشاركة والرقابة على السلطة؟

- نتيجة للحالة الجنينية التي عليها المجتمع المدني الذي هو في طور التشكل الثقافي وفي طور تأسيس ممارساته على أرض الواقع، فإن مقارنته ليس فحسب بالحالة الغربية وإنما مقارنته كذلك بالحالة الآسيوية في كوريا والهند هي مقارنة تفتقر للمصداقية المنهجية.

ولننظر لمسألة مهمة هنا وهي أن شعار هذه المنظمات وطبيعة عمل هذه المنظمات تضعها السلطة، وعادة ما تضع السلطة القوانين المنظمة لعمل هذه المنظمات وهي قوانين تعكس حالة عدم الثقة بين الدولة والمجتمع أي بين هذه المنظمات والدولة وهي حالة تعكس كذلك قوة تضخم السلطة وضعف المجتمع المدني كقوة مؤثرة في سلوك الدولة وخطابها، ثم إن الدولة في مجتمعاتنا لا تكتسب شرعيتها من المجتمع المدني بل تقوم شرعيتها إما على الأسس التقليدية أو على الأسس القائمة على الانقلابات العسكرية والثورية.

* المنطقة العربية مهجوسة بمسألة الشرعية تلتمسها تارة من الحالة الدينية وتارة من الحالة القبلية وأخرى من الديمقراطية، فهل هذا التزلزل في التماس الشرعية سبب في عدم الوصول لحالة مشاركة حقيقية؟

- مسألة أساسية أن هناك مآزق شرعية وأن المجتمعات العربية لم تستطع بعد أن تطوّر شكلا من أشكال الشرعية المقبول لمن هم داخل السلطة، أو من هم خارجها، وتعكس هذه الحالة «الصراع على السلطة» ومأزق الشرعية لربما يكمن هنا في حقيقة أن الصراع السياسي في المجتمع هو صراع بين قوى المعارضة والسلطة على تغيير الدولة وليس صراع لإحداث التغيير في الدولة، وتأتي مسألة «النط» وتبني منظومات مختلفة من الشرعية وأحيانا نأخذ بمسألة التقليدية وأحيانا أخرى نأخذ بمسألة الشرعية الثورية والشرعية الدينية، وكل هذه الشرعيات لا تأتي من صناديق الاقتراع وهي شرعيات تحمل في داخلها تناقضات جوهرية بين جزئيات شرعيتها المركبة من الشرعيات الدينية والثورية والتقليدية. وتتماثل في إطار هذه الشرعيات المختلفة قوى الإسلام السياسي والقوى القومية واليسار العربي والقوى المذهبية والقبلية وهي كلها قوى باعتقادي لم تتأصل فيها بعد بدرجة كبيرة فكرة الشرعية القائمة على صناديق الاقتراع، وينشئ هذا المأزق حالة من عدم الاستقرار سياسي داخل المنطقة العربية والتي تعكس الصراع على الدولة، وما يحدث في الدول الديمقراطية إن هو إلا صراع على إحداث التغيير في الدولة وهذا غير قائم في المنطقة العربية.

* هل للعرب خصوصية اجتماعية تمنعهم من التحديث المجتمعي؟

- هذه مقولات تّتداول كثيرا وللأسف يؤكدها بعض الساسة العرب، وتؤكدها بعض الكتابات العربية، وما تلكؤ قيام أنظمة ديمقراطية في المنطقة العربية إلا إنعكاس لهذه الحساسية المفرطة من الديمقراطية، وحقوق الإنسان والشفافية، وقيام مجتمع المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.وتأتي عى تأكيدها الكثير من الكتابات والتي تؤكد حقيقة أن الكثير من دول ومجتمعات العالم قد حسنت من حالة حقوق الإنسان فيها إلا المنطقة العربية، وهؤلاء يستندون إلى تقارير منظمات حقوق الإنسان في العالم والتقارير السنوية التي يصدرها بيت الحريات وتقارير منظمة «مراسلون بلاحدود» في الولايات المتحدة الأميركية وغيرها، والتي تشير تقاريرها للسنوات الخمس الماضية أن المنطقة العربية تتضمن أكبر مجموعة من الدول القمعية الدكتاتورية، والتي تنتفي فيها أشكال الحريات المدنية، وأعتقد إن ربط العروبة والإسلام بحالة التلكؤ في النهوض الديمقراطي هو ربط خاطئ، حيث أثبتت التجربة التركية والماليزية تحديدا من أن الإسلام كدين لا يحمل حساسية من مسألة تداول السلطة وحقوق الإنسان وفي أن تكون الديمقراطية أداة نحو الحكم الصالح.

وأعتقد أن في المنطقة العربيةبعض المحاولات للإصلاح السياسي، وهي محاولات مازالت في بدايتها الأولى، ولم تنتقل بعد إلى شكل متطور من أشكال الديمقراطية المعروفة، وهي محاولات تقع في الأطراف وتحديدا في الخليج: الكويت والبحرين وفي الأردن والمغرب واليمن إلى حد ما، وهي ذول لامحورية في الحالة السياسية العربية، وكلها تصنف من قبل منظمة بيت الحريات ذات حريات سياسية جزئية، ودرجات هذه الدول على مقياس الحريات السياسية متدنية إذا ما قورنت بتركيا وماليزيا وهما من الدول التي بدأت تقترب تجربتها في الحريات السياسية والمدنية من المجتمعات ذات الحريات الكاملة.

* ما مدى جهد النخبة المثقفة والنخبة التجارية في الوصول للديمقراطية؟

- صحيح أن عمليات التحديث التي جاءت على المنطقة منذ عشرينيات القرن الماضي قد بدأت بدفع من الإرادة البريطانية في الخليج، إلا أن الذي ساعد على درجة القبول بها وتمثلها في بعض مجتمعات المنطقة إنها كعملية كانت ضمن مطالب الطبقة التجارية والنخب المثقفة والكثير من الفئات الإجتماعية الجديدة التي أتاحت لها هذه العملية صعودا في السلم الإجتماعي والإقتصادي.

وكان للنخب التجارية تحديدا في ذلك الوقت بعض المطالبات بتحديث سياسي، وهذا ما تشير له الدراسات في البحرين والكويت وإمارة دبي في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، إلا أن تأثير هذه النخب الثقافية لم يتبلور إلا مع تشكّل قطاع المتعلمين في خمسينيات القرن الماضي، ومطالبات هذه الفئة بإحداث إصلاحات سياسية في مجتمعي الكويت والبحرين، ووصلت هذه المطالبات إلى درجة المطالبة بالاستقلال السياسي عن الوصاية البريطانية في البحرين والكويت، وهي فئة قد اتسمت أطروحاتها بقدر ليس عاديا من الإصلاحية السياسية، ولم تكن قوى ثورية تطالب بتغيير الأنظمة وإنما كانت تطالب بإصلاح الأنظمة السياسية القائمة في الخليج، ولربما أن ما حدث في البحرين والكويت في الستينيات والسبعينيات يعكس في جزء منه هذه المطالبات السياسية.

* هناك حالة من الحنين للاستعمار عند البعض ما تأويلك لهذه النزعة؟

- بشكل عام المجتمع العربي به حنين غير عادي للماضي مع كثير من المثالية واليوتوبيا، وهذه ليست حالة فئة بل حالة قطاعات سياسية مختلفة في المنطقة العربية، كما هو حنين البعض إن لم يكن كل فصائل الإسلام السياسي في المنطقة العربية لإقامة دولة الخلاقة الإسلامية، أو دولة الفقيه من ناحية إخرى، فإن البعض يعتقد بأن الاستعمار كان في تعامله أكثر رحمة من الأنظمة، وهي حالة انطباعية حتى على مستوى الخليج، فكثير من التحولات اقتصاديا واجتماعيا حدثت خلال الثلاثين سنة الماضية وهي حالة لم تكن تحدث على مدى قرن من الزمان في ظل حضور مباشر أو غير مباشر للوصاية البريطانية، وهناك ممارسات تدفع البعض للقول بذلك إلا أنني لا أعتقد أن الخليج في حالة الوصاية أفضل من حالته الآن.

* هل هناك تقصير من النخبة في الوصول لمجتمع مدني حقيقي؟

- هناك مجموعة من المسائل تهيئ لمجتمع مدني منها قدرة المجتمع على تجاوز التضامنيات الاجتماعية التقليدية وهي حالة تعزز ممارسات قائمة داخل المجتمع والدولة، والخطورة على الدولة لا تأتي من قوى المجتمع المدني وهي قوى بطبيعتها إصلاحية، وإنما الخطورة تأتي من التضامنيات الاجتماعية الجماعات الطائفية والقبلية المختلفة وهي جماعات بفعل عصبويتها تحاول أن تستأثر بكل حصص القوة وبدافع محاولاتها للاستئثار بهذه القوة تدخل في نزاع مع تضامنيات أخرى فتسبغ الصراع الاجتماعي بصيغة قبلية أو بصيغة مذهبية بدلا عن الصيغة المدنية وهي حالة كل المجتمعات المتحضرة.

* هل هناك حالة من الاستهواء للتسلّط في طبيعة المجتمع العربي؟

- أشرتُ في الكتاب إلى أن جزءا مما يقال عن الحالة الثقافية السياسية للمجتمع من أن المجتمع العربي يطرب ويرقص للسلطان المتسلط، ألم يقل البعض في المنطقة العربية أن حكم الدكتاور العادل خير من الضعف الديمقراطي، وهي جزء من الثقافة، وهي نتيجة لتعب الناس وعجزهم عن الحصول على البديل الأفضل فإنهم يركنون للحلول الجاهزة، ويستقون جل حلولهم من الماضي أكثر مما يستقونها من الحاضر من المجتمعات الأخرى التي أثبتت تجربتها السياسية أنها تعيش حالة من الاستقرار السياسي على مدى قرون من الزمان بفعل شراكتها المجتمعية ودويمومة التنمية.

* ما قراءتك لاستمرار المجتمع العربي في تدجين المشروعات السياسية التي يأتي بها الآخر ويرسلها لنا كمستلم حضاري بغرض صناعة متلقي جيد، ولكن جرت العادة أن المجتمع العربي بسبب ما يعيشه من تخلّف يدجّ ن ما يستلمه من المشروعات سياسية عن طريق السلطة.

- الكثير من المجتمعات استطاعت أن تحدث قدرا من التوازن بين الحالة الاجتماعية والسياسية، بل إن قدرا كبيرا غير عادي من النهوض الاقتصادي قد حدث بفعل تحولات سياسية، هذه التحولات السياسية التي جاءت بقدر غير عادي من الاستقرار السياسي دفعت نحو نهوض إقتصادي غير عادي... التجربة الأولى تمثلها الحالة التركية وهي تجربة أثبت فيها الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا «حزب العدالة والتنمية» أنه لا يُدخل ضمن أجندته السياسية «أسلمة الدولة» وإنما جل إهتمامه تركّز حول إحداث قدر غير عادي من النهوض الاقتصادي بما ينعكس على الحالة المعيشية، والتجربة الأخرى تمثلها حالة ماليزيا والتي بها قدر غير عادي من النهوض الاقتصادي وهو نهوض تحقق بفعل تداول السلطة التي جاءت عن طريق صناديق الاقتراع. وكذلك الحالة الكورية التي عاشت قدرا كبيرا من الإضطراب السياسي خلال الفترة الممتدة من في السبعينيات حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي والتي دفعت نحو تبني مبدأ الاحتكام لصناديق الاقتراع وهو ما ساعد على تثبيت حالة الاستقرار السياسي فيها وتحقيق قدر غير عادي من الصعود الرأسمالي.

* إلى أي مدى كانت الأنظمة الغربية مخلصة في صنع تغيير حقيقي في المنطقة. أم ان مصالحها السريعة والآنية تعميها عن ذلك، وهل من مستقبل للحالة العراقية في تصدير الديمقرطية للمنطقة بصورة إيجابية، وهل أسهمت الشعارت السياسية المتلاحقة على المنطقة في صنع تغير منذ مشروع الديمقراطية حتى الفوضى الخلاقة؟

- الحالة العراقية مختلفة، والتغيير فيها قد حدث فيها بفعل احتلال عسكري أجنبي وهذا قد جاء بحالة غير عادية من الفوضى، وأخرج القوى ما قبل الحداثية في المجتمع العراقي بحالة من الصراعات الدموية المدمرة للذات والمجتمع، وأعتقد أننا لا نستطيع أن نقول إن الحالة العراقية تمثل نموذج يمكن أن يُحقق له الانتشار في المشرق العربي؛ لأنها حالة غير مستقرة وهو نموذج أصبح جالبا للدمار أكثر منه محققا للاستقرار، وأثارت تخوفات في محيطه الإقليمي، وإذا ما استطاعت القوى الاجتماعية والسياسية العراقية الاحتكام في إدارة المجتمع إلى صناديق الاقتراع وأن تحفظ التوازن داخل المجتمع بين الفئات والأثنيات المختلفة، وإذا ما استطاعت الاعتراف بحق الآخرين من أبناء المجتمع في العيش المشترك، عندها قد تكون التجربة العراقية قابلة للتأثير، وفي وضعها الحالي هي حالة مخيفة في محيطها الإقليمي، ومدمرة للدولة والمجتمع في الداخل العراقي، وكل الخوف أن يدخل المجتمع العراقي في النفق الذي دخلت فيه مجتمعات مثل الصومال وأفغانستان والذي جاء بفعل تدمير الدولة، ورغم كل الكلام الناقد أحيانا والنافي للدولة إلا إنها تبقى تمثل الرابط الوحيد لحفظ المجتمع. أنا لا أعتقد بأن هناك شيئا يمكن أن يقال في الحالة العراقية من قبيل إنها فوضى خلاقة. أعتقد أنها في حالتها الآنية تمثل حالة مدمرة للذات والمجتمع العراقي وهي حالة مخيفة وتثير الفزع في محيطها الإقليمي.

* هل ساهمت التجارب الديمقراطية المنقوصة كما في لبنان وغيره في تفويت الفرصة الديمقراطية على المجتمع الخليجي حتى أصبحنا نغري المنطقة العربية باتخاذ نظام المشيخة والقبيلة حتى صار ينادى على بعض الأقطاب السياسية في الدول العربية بالأمير والشيخ و... الخ.

- ما حدث في الحالة اللبنانية هي مأسسة التضامنيات، وهو الشيء الذي يراد له أن يتم في الحالة العراقية، وهاتان التجربتان تحديدا تفرضان تأثيرهما على الحالة السياسية في الخليج، وتصطبغ بالتالي العملية السياسية بهذه الحالة القائمة في لبنان والعراق. والآن في لبنان لا تستطيع أي من القوى الإجتماعية والسياسية الجديدة أن تمثل سياسيا إلا من خلال التضامنيات السياسية الممثلة في أحزاب حديثة بمعنى آخر أن أيا من الأفراد لا يستطيع أن يدخل العمل السياسي إلا من خلال هذه الأحزاب السياسية التي هي في واقع أمرها تضامنيات طائفية، وهي الحالة التي باتت عليها العراق وهي الحالة التي اصطبغت بها كذلك التجربة الكويتية فالقبائل لا يأتون إلا بممثلي القبيلة وكذلك الطوائف لا يأتون إلا بممثلي الطائفة، وإن جاء من خلال أحزاب سياسية.

* إلى أي مدى استطاع المجتمع العربي في تحولاته المختلفة القرب من الديمقراطية وهل من فصيل سياسي أو ثقافي أو اجتماعي عربي كان قريبا من الديمقراطية.

- المجتمع العربي في ممارساته السياسية قد اقترب من الحداثة في مظاهرها المادية وهي في ذلك ممثلة في السلع والخدمات وإن كنا لا ننفي بعض الجوانب القيمية، إلا أنه لم يقترب من تحديث الدولة من حيث أن تكون الديمقراطية أداة لإدارة الحكم والمجتمع، وعربيا هناك محاولات لترشيح حالة ديمقراطية لربما كانت حالة السودان في يوم من الأيام في تنازل أسوار الذهب وكذلك الحالة الموريتانية إلا أنها حالات لم تتركها المؤسسة العسكرية لأن تأخذ مداها في الحياة السياسية.

العدد 2478 - الجمعة 19 يونيو 2009م الموافق 25 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً