العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

عندما تتحول حقوق الإنسان إلى سرقة الإنسان

حكم أحد القضاة على شخص يبلغ من العمر 37 عاما (في العام 1990) بالسجن عامين ونصف. الشخص كان رجل أعمال وذهب إلى الطبيب ذات يوم ليعلم انه مصاب بمرض السرطان وانه سيموت قريبا. نظر رجل الأعمال الشاب إلى وضعه وإلى مستقبل عائلته وكيف سيؤول حالها بعد موته وانهيار أعماله التجارية المعتمدة عليه. وعلى الفور بادر بتنفيذ خطة لمصلحة عائلته، إذا قام بتصنيع 35 قنبلة موقوته وزرعها في متاجر كبيرة في المدن الألمانية. وبعدها طالب أصحاب المتاجر بدفع قرابة نصف مليون دولار في مقابل أخبارهم بمكان القنابل وكيفية أبطالها. وبعد نشاط استخباراتي ضد الشخص القي القبض عليه بعد أن تسبب في بعض الأضرار.

أثناء المحاكمة طرح محامي الشخص أن موكله تحرم بدافع الإخلاص لعائلته، وانه لم يكن يقصد الإيذاء، لأنه آمن بان المتاجر لن تتضرر من خلال الاستجابة لطلبه وثم الحصول على التعويضات من شركات التأمين. وقد حاسب نفسه قبل القيام بهذا العمل ووجد أن هذا هو أفضل سبيل لخدمة عائلته دون أن تخسر المتاجر التي تستجيب لطلبه.

هذه القصة الحقيقية تعكس الأخلاقية والتبرير النفسي الذي يمر خلاله المرء قبل أن يمارس نشاطا معينا.

فالإنسان عادة يمر في معاناة نفسية قبل أن يقدم على عمل ما يعتبره المجتمع جريمة، أو يعتبره القانون جنة تعاقب عليها المحاكم العادلة. ما هي الدوافع التي تدفع بشخص محترم أن يمارس السرقة أو أن يمارس نوعا آخر من الإجرام دون أن يشعر بالذنب؟ ما هي المبررات النفسية التي تسري في عقل من يمارس الابتزاز، أو يسرق من أموال الدولة أو يتحايل على النظام من أجل الحصول على مزيد من المال؟

ربما ان بداية الطريق لذلك الشخص الذي يسرق والشخص الآخر لا يسرق هي واحدة. فكلاهما يعتقد أن له حقوقا من المجتمع الذي يعيش فيه. بمعنى أن الشخصين ينظران إلى ضرورة الحصول على حقوقهما كاملة من المجتمع الذي يعيشان فيه. والأخلاقية في أوساط المجتمع هي التي تحدد الموازنة بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع، فالشخص الذي له حقوق عليه أيضا مسئولية اجتماعية، والمجتمع الذي يوفر الحقوق يطلب من أفراده أن يقوموا بمسئولياتهم حسب القانون العادل المستمد من الدستور المتفق عليه بين أفراد المجتمع. ولهذا فإن الحق والحقوق يتم موازنتها بحكم القانون الدستوري. مع كل هذا الحديث، هناك من يرى أن من حقه ان يقوم ببعض الأمور، ويعتبر أن المجتمع قد ظلمه وان السبيل الأمثل هو "الشطارة" في إرجاع ما "سلبه" منه المجتمع الذي يعيش فيه. عندما تطرقت في موضوع سابق ن وقوعنا ضحية "للكاره الأوروبي والمكروه اليهودي" قال لي أحد القرء أن اليهود كانوا يتصرفون بطرق خاصة وغير محببة لدى الأوروبيين جعلت منهم فئة محبوبة. فهي "تحلل لنفسها" التعامل مع غير اليهودي بطرق مختلفة من الطرق التي يتعاملون بها مع بعضهم الآخر ولذلك كرهم الأوروبيون. وأنا لست في موقع الرد بالقبول أو الرفض على هذه النظرية، فقد تكون صحيحة وقد تكون مبالغ فيها. غير أن الصحيح أن هناك (بعض الأحيان) اليهودي المتدين والمسيحي المتدين والمسلم المتدين من يقوم بأعمال مخلة بالقانون مماثلة لذلك الشخص غير المتدين. وفي كل الأحوال يجد من يبرر لنفسه السطو أو السرقة المبررات الدينية وغير الدينية لممارسة العمل الممنوع قانونيا، كان يقول بان المجتمع لم يعطه حقه بالكامل، أو أن يقول بأن ما سيقوم بأخذه كان سيصرف على غيره الذي قد لا يستحق كما هو يستحق، أو يقول بأن الطرف المسروق ليس من ديانتي ولذلك فالسرقة منه "حلال". وقد يتطور التبرير حتى يسمح للصرب المسيحيين، مثلا، بممارسة أبشع أنواع القتل والتصفية ضد البوسنيين المسلمين، وقد يتطور التبرير لدرجة الافتخار بارتكاب المذابح في فلسطين ولبنان وراوندا وغيرها.

لو التزم اليهودي بالأوامر العشرة الموجودة في التوراة التي تحرم الكبائر ولم يحاول تبرير مخالفتها فإن ذلك يعني أن هذب نفسه وأبعدها عن الأضرار بها وبغيرها. وكذلك المسيحي الذي يؤمن بالأوامر العشرة. أما المسلم فإن أولوية الالتزام أن تكون له في الأخلاق والتعامل لان رسول الله (ص) قال: "أنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ولان الدين، عند المسلمين، هو "المعاملة"، أي معاملة الناي الذين هم صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".

ربما أن ابتعاد الإنسان عن الأخلاقية في التصرف لا يرجع فقط إلى التبريرات المنحرفة (سواء كانت دينية أو غير دينية) وإنما أيضا من الثقافة غير المسئولة المعروضة بصورة شيقة في كثير من أفلام هوليود (المسيطرة على مساحة واسعة من الثقافة العالمية) التي تعرض أبطال الأفلام وهم يسرقون أمول البنوك أو يستولون على ذهب مسروق وينجون في النهاية من العصابات المنافسة لهم ومن القانون. أن الثقافة السليمة هي التي تدعو الإنسان للحصول على حقوقه (من المجتمع) من خلال سعيه وكافحه ومن خلال بذل ذكائه وجهده في تخطي الصعاب.

فمن كان كريق الصواب صعب عليه في البداية، فعليه أن يعلم أن طريق الخطأ صعب عليه في النهاية.

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً