العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

"حق تقرير المصير" ممنوع في الشرق الوسط

عندما هاجم نابليون بونابرت مصر واحتلها في العام 1798 لم يكن هناك ما يسمى حاليا بـ "الشرق الأوسط" سوى دولتين رئيسيتين الدولة العثمانية والدولة الإيرانية. القرنان أو الثلاثة التي سبقت هجوم نابليون شهدت تآكل الدولتين من الأطراف واهتزاهما أمام الغزو الأوروبي التجاري والثقافي، بالإضافة لتراجع الأوضاع الداخلية نتيجة للديكتاتورية المصحوبة بتجهيل الأمة وخنق طاقاتها العلمية والفكرية... ذلك لان خروج الأمة من الجهل يحتاج للعلم، والعلم يحتاج لحرية التعبير، وحرية التعبير لا تتوافق مع الدكتاتورية.
ولهذا يرى بعض المفكرين أن تأسيس "الشرق الأوسط" بمفهوم المعاصر جاء على يد نابليون الذي احتل واحدة من أهم البلدان الإسلامية، مصر، والذي عجزت عن دحره أي قوة محلية أو إقليمية (كالدولة العثمانية). ولم يستطع إخراج نابليون من مصر سوى البريطانيين الذي حلوا محله هادفين إبعاد الفرنسيين من منطقة حيوية تعتبر ممرا لمستعمرة الهند الغنية (آنداك) بكل ما تريده الإمبراطورية البريطانية.
بريطانيا وفرنسا تشاركتا في صنع "الشرق الأوسط" والدولتان شجعتا الحركات الانفصالية والطائفية والعرقية لتفكيك البنى الاساسية لهذه المنطقة الحيوية. بريطانيا وفرنسا، ومن خلال جلسات بسيطة لمسئولين من الدولتين، رسمتا الحدود واصطنعتا الشرق الأوسط، ولم تتردد بريطانيا لحظة واحدة من تسليم فلسطين لغير أهلها.
ثم ابتلانا الله بما هو اشد نقمة (بدلا من النعمة) إذ أصبح هذا "الشرق الأوسط" المصدر الرئيسي للطاقة والعصب الحيوي لاقتصاديات الدول المتقدمة صناعيا لاسيما القوة العظمى التي استلمت زمام العالم بعد بريطانيا، الولايات المتحدة الأميركية.
نابليون الفرنسي لم يخرجه من مصر سوى نيلسون الانكليزي، لان الحل والربط بيد القوة التي أنشأت الكيان، هذا الكيان لم يستمد تكوينه من "حق شعوبه في تقرير مصيرهم"، وهذا الحق لا ينطبق على الشرق الأوسط البته، وكلما ازادات ثروات البترول كلما انعدمت حقوق تلك الشعوب في تقرير مصيرها.
أصبح في الشرق الأوسط "الوطن العربي"، "الوطن التركي" و"الوطن الإيراني". وتم التضحية بالعرقيات الأخرى التي لم تستطع أن تكون على طاولة المناقشات أثناء تكوين الشرق الأوسط. الوطن العربي تم يعد ذلك تفكيكه دولة دولة، وأصبح نظرية غير قابلة للتطبيق، بل يضحك عليك العربي فيما لو قلت اليوم بأن الجامعة العربية هي "الممثل الوحيد للأمة العربية على الساحة الدولية"، سوف تتهم بالجنون والغباء والعفوية.
الحقيقة المرة هي تلك التي قالها أنور السادات بان "99 في المئة من الحل في يد أميركا، لا في يد الشعوب ولا حتى في يد حكام تلك الدول. ولهذا لم يضيع وقته كثيرا ولم يخجل ولم ينافق وإنما ذهب راكضا إلى الولايات المتحدة لتحل له مشاكله. أما أولئك الذين انتقدوه من بقية الحكام، فإنهم أو غالبيتهم سرعان ما ذهب الحياء منهم وركضوا سريعا ولم يد احد يخجل من إعادة تصريح السادات بان "الحل بيد أميركا"، كما كان الحل بيد بريطانيا وفرنسا سابقا.
الحل بيد أميركا في كل شيء. فلولا أميركا لكان النظام العراقي لازال في الكويت، ولولا أميركا لإنهارت جميع الدول القائمة على الدعم العسكري أو المادي الأميركي. بل أن أميركا هي المعنية بالدرجة الأولى بما يجري في الخليج والشرق الأوسط. والساسة الأميركيون لهم معرفة وإطلاع وحرية اتخاذ القرار بشأن الخليج والشرق الأوسط. بلا داع لمساءلة أو استفسار من شعوب تلك المنطقة. لأنها لم تكن موجود في المعادلة التي صنعت الشرق الأوسط وليس لها أي دور معترف به على الساحة المحلية أو
الإقليمية أو الدولية. نعم قد يستشار الأفارقة في مصيرهم وقد يطلب من رجال ونساء الغابات الإفريقية في ناميبيا أن يحددوا رأيهم ومصيرهم، وقد يتم الاستفسار من دول شرق آسيا وأميركا الجنوبية، وأي بقعة في العالم ما عدا استثناء واحد وبسيط اسمه "الشرق الأوسط".
الشرق الأوسط اليوم تم تكبيره، فهو يشمل الوطن العربي (بضمه شمال إفريقيا) ويشمل الدول الناطقة بالتركية والفارسية التي كانت ضمن الاتحاد السوفياتي، ولهذا فإن "الوطن التركي" و"الوطن الفارسي" و"الوطن العربي" هم الآن "الشرق الوسط"! من الذي قال هذا الذي حدد ما هو الشرق الأوسط، فالخرائط الجديدة الصادرة من المؤسسات الأكاديمية (الأميركية طبعا) والمعنوية بالشرق الأوسط تضم الآن دول آسيا الوسطى بالإضافة لما كان متعارف عليه قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. ربما نفرح أن لدينا ثلاثة أوطان وربما يخرج وطن آخر للأكراد وخامس للبربر وسادس في جنوب السودان، الخ. ولكن يلزم أن لا نفرح كثيرا، فهذه الوطن ليست لشعوبها وليست نتاج "حق تقرير المصير" وليس مسموحا لها أن تتاجر مع بعضها الآخر.
دول "الوطن العربي" لها علاقات "مقطوعة" مع بعضها الآخر و"مفتوحة" مع من بيده حل الأمور (99 بالمائة منها). والأوطان الأخرى يفرض عليها العقاب فيما لو حاولت أن تتعاون اقتصاديا واجتماعيا كما تتعاون جميع الدول المجاورة. لا يخالجني شك أن "حق تقرير المصير" سوف يعطي لشعوبنا عندما يتحول الشرق الأوسط لغابة أو صحراء قاحلة "دون بترول" أو أي شيء مشابه لذلك، لان حقنا في تلك الحالة سيكون وجوده كعدمه. غير انه لا يخالجني شك أيضا بأن الشعب الذي ينشد الحياة والعزة والكرامة، لا بد أن يستجيب له القدر، ذلك لان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً