العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ

في المسألة قولان

عندما حقق حزب العمال البريطاني فوزه الساحق في آيار (مايو) الماضي (1997) كان من المفترض أن تتغير السياسات الداخلية والخارجية والاقتصادية والاجتماعية وان تنقلب مخططات حزب المحافظين رأسا على عقب، إلا أن ما حدث أن حزب العمال أضاف لاسمه مفردة "الجديد" وأقر معظم التغييرات التي أحدثها حزب المحافظين. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أن توني بلير، زعيم حزب العمال، استطاع أن يهاجم المحافظين ويحطمهم بنفس الأسلوب الذي استخدمه المحافظون لإزاحة حزب العمال من الحكم قبل 18 عاماً.

فبدلا من انتظار حزب المحافظين للتحدث عن الضرائب وكيف ان حزب العمال مغرم بزيادة الضرائب على الشعب، سارع استرايجيو حزب العمال بالهجوم على حزب المحافظين الذي "لم يتورع في زيادة الضرائب وإنهاك دافعي الضرائب".

لم يترك رئيس الوزراء توني بلير حديثا جذابا كان يستخدمه العمل "الجديد" ومن الهجوم على المحافظين. هذا هو الأسلوب الذي جعل رجال الأعمال وطبقة الأثرياء لا تنزعج من حزب العمال واستلامه الحكم. بل على العكس فقد كان من أكبر ضيوف حفل النصر الذي عقده حزب العمل أثرى الأثرياء في بريطانيا بضمنهم ريتشارد برانسون الذي ظهر مبتهجها مع قادة حزب العمال.

أن الفن الجديد في عالم السياسة والذي استطاع قادة حزب العمال التدرب عليه هو فن "تحوير الكلام". وهذا الفن الجديد الذي ظهر في الولايات المتحدة ووصل إلى بريطانيا وأوروبا له متخصصون تطلق الصحافة على مفردهم اسم "Spin Doctor" بمعنى "دكتور التحوير". ويتخصص هؤلاء في صد اتهامات الطرف الآخر وتركيب التصريحات والجمل السياسية بما يحفظ للقائد السياسي مكانته وموقعه. ووجد حزب العمال أن هؤلاء المتخصصين أفضل له بكثير من شخصياته الجادة التي يخاف منها المجتمع البريطاني. وهكذا صعد نجم أحد أعوان توني بلير إلى مراتب عليا في حزب العمال وفي الحكومة، بيتر ما ندلسون. ويطلق بعض أعضاء حزب العمل على ما ندلسون ايم "أمير الظلام" أو الأمير في الظلام، في مقابل الأمير في النور، أي رئيس الوزراء.

و"أمير الظلام" لم يعد أميرا في الظلام، بل انه أصبح متحدثا رئيسيا وناطقا عن سياسيات حزب العمال ووزيرا مفوضا، وناشطا في كل السياسيات وخصص له رئيس الوزراء مكتبا قريبا من مكتبه لكي يستطيع تسيير دفة السياسة بالاعتماد على هذا الفن الجديد. ولم يتنازل رئيس الوزراء البريطاني عن ماندلسون رغم ما يقال عنه أمير للظلام وغيرها من التعبيرات التي تدل على مدى ما يكنه البعض من كره له.

لقد اثبت "أمراء الظلام" أن باستطاعتهم أن ينتصروا على الأساليب التقليدية الأخرى. فحزب المحافظين الذي كان قد اعتمد الطريقة ذاتها قبل العمال لجأ قبل الانتخابات للحصول على دعم شهبي أكبر من خلال الإشارة إلى أن أكثر الفرق الموسيقية شعبية في بريطانيا (سبايس غيرلز) تؤيد حزب المحافظين، ولكن ذلك لم يمنعه ولم يستطع مواجهة محترفي السياسة الذين وظفهم حزب العمال لتحوير النهج والخطاب السياسي.

ولتوضيح الفن الذي يمتهنه دكاترة التحوير فلننظر للفرق بين تصريحين صدرا في منتصف آب (أغسطس) 1997 حول فوز شركة ألمانية لبناء القبة الكبيرة التي تعدها الحكومة البريطانية للاحتفال بالألفية الثالثة. نائب رئيس الوزراء البريطاني، جون بريسكوت، علق بنبرة مأساوية قائلا "أن فوز شركة ألمانية بالمناقصة المطروحة يعبر عن الوضع الحزين الذي وصلت له الشركات الصناعية في بريطانيا التي لم تستطع التقدم لبناء القبة". هذا التصريح صدر من شخص يعتبره أنصاره من أتباع النهج القديم في حزب العمال. بعد هذا التصريح سألت اذاعة البي. بي. سي "بيتر ماندلسون" عن رأيه، فرد بصوت مبتهج وواثق "أن منح المشروع والبدء فيه كلل الجهود القيمة التي بذلت، وأن هذا المشروع سوف يوفر مجالات واسعة لتنشيط سوق العمل وحركة السوق". الموضوع واحد، ولكن اللغة تختلف، والشخصان ينتميان لثقافتين مختلفتين في كيفية التعاطي مع الأحداث والقضايا السياسية. ولا غرابة أن نائب رئيس الوزراء بريسكوت يكره ماندلسون وأشباه ماندلسون ويتمنى عدم نطقهم.

وفي هذه الدوامة، يتساءل البعض: هل أصبح كل شيء قابلا للتحوير والتبديل، وهل أصبحنا تحت رحمة دكاترة التحوير؟!

في الحقيقة أن هناك أمورا وقضايا أساسية ثابتة يعجز دكاترة التحوير عن قلبها رأسا على عقب. تلك هي المبادئ التي تغرس بعمق في الوجدان. ومثال ذلك قصة الخيالية التي تقول أن أحد الأشخاص كان دائما يردد لأصدقائه: "أن لوالدي رأيا في هذا الموضوع". ثم يقوم بسرد رأيه الشخصي حول أي موضوع يطرح في دائرته العلمية. وحسب أصدقاؤه أن والده أحد كبار العلماء، حتى صادف أن عزم والده الذي يقطن الريف أن يزوره في المدنية. وهنا استاء الابن كثيرا لان أصدقاءه سوف يكشفون الحقيقة وهي أن والده ليس عالما ولا متعلما. مما حدى به أن يسارع لوالده والاتفاق معه على ترديد جواب واحد لكل سؤال يقدم حول المواضيع التي يدرسها ابنه. وهكذا كان، فكلما سأل أحد عن رأي "العالم" غير المتعلم، أجاب "في المسألة قولان". وما أن يقول هذه الجملة حتى ينبري صاحبنا ليقول "إنما قصد والدي بالقول الأول كذا وبالقول الثاني كذا".

ولكن تكرار النمط ذاته أورد الشك لدى أحد السائلين الذين بادر بتقديم سؤال لا يقبل التحوير قائلا "أفي الله شك؟". وهنا احتار الوالد وولده وعجز أحد أقدم دكاترة التحوير من الإجابة على سؤال يتعلق بالمبادئ!

العدد 1 - الجمعة 06 سبتمبر 2002م الموافق 28 جمادى الآخرة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً