العدد 3732 - السبت 24 نوفمبر 2012م الموافق 10 محرم 1434هـ

«حقُّ الاسم»... جسَّده «الحُرُّ» في نصفِ نهار!

فاضل حبيب comments [at] alwasatnews.com

.

يقول المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه «خارج المكان» وهو يتحدث عن اسمه: «كان يلزمني قرابة خمسين سنة لكي أعتاد على (إدوارد) وأخفّف من الحرج الذي يسببه لي هذا الاسم الإنجليزي الأخرق الذي وضع كالنير على عاتق (سعيد) اسم العائلة العربي القح. وخلال سنوات من محاولاتي المزاوجة بين اسمي الإنجليزي المفخم وشريكه العربي، كنت أتجاوز (إدوارد) وأؤكد على (سعيد) تبعاً للظروف وأحياناً أفعل العكس، أو كنت أعمد إلى لفظ الاسمين معاً بسرعة فائقة بحيث يختلط الأمر على السامع، والأمر الوحيد الذي لم أكن أطيقه مع اضطراري إلى تحمله هو ردود الفعل المتشككة والمدمرة التي أتلقاها: إدوارد؟! سعيد؟!

إن «حق الاسم» حق من حقوق الإنسان في التعريف بذاته وهويته والفضاء الذي يعيش فيه، وهو حقٌ أصيلُ للأبناء على آبائهم، استناداً لاتفاقية حقوق الطفل في المادة السابعة منها: «يسجّل الطفل بعد ولادته فوراً، ويكون له الحق منذ ولادته في اسم...».

يشدّد علماء النفس على ضرورة أن يختار الوالدان للطفل اسماً مناسباً مقبولاً مجتمعياً بحيث لا يكون منفِّراً ومسيئاً بحقه؛ لأن الاسم يلازم الإنسان طوال حياته، وحسن تسمية الطفل إنما ينمّ عن ذوق جمالي يتمتع به الآباء، فعن الرسول (ص): «حقّ الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويحسن أدبه».

والاسم ليس مجرد لفظ يُكتب في شهادة الميلاد وانتهت المسألة، بل هو حقٌ يختزن بداخله إنسانية الإنسان، قال تعالى: «يا زكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بغلامٍ اسْمُهُ يحيَى لم نَجعل لهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً»، (سورة مريم: 7)، وقال أيضاً: «وما جعل عَليكمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمينَ مِن قَبْلُ...» (سورة الحج، 78).

وشتَّان بين أن تنادي شخصاً باسمه إذ سيكون له وقع سحري وإيجابي على نفسيته، وبين أن تناديه قائلاً: يا هذا... أو يا أنت!

الأصل هو أن يتفق الوالدان على اختيار الاسم المناسب للأبناء قبل الولادة، وتجنُّب ازدواجية الاسم بالنسبة للطفل، بأن يكون له اسم رسمي في شهادة الميلاد، واسم آخر في المدرسة أو في الحي أو مع الأصدقاء أو ما شابه ذلك، وليعذرني في هذا المقام بعض الإخوة السياسيين أصحاب «الأسماء الحركية» الذين كانوا يتخفون لسنوات قليلة مضت خلف هذه الأسماء؛ نظراً للدوافع الأمنية.

ونحن نعيش أجواء عاشوراء نستحضر معاً «حق الاسم» في شخصية «الحر بن يزيد الرياحي». هذا الرجل الذي أرسله ابن زياد لصدّ الإمام الحسين (ع) عن الكوفة، وكان أول خارجٍ على الحسين (ع)، وفي مثل هذا اليوم (يوم عاشوراء) وبعد أن صفّ كلٌ من الحسين (ع) وابن سعد جيشه للحرب، أقبل الحرُّ على ابن سعد قائلاً: أصلحك الله، أمقاتلٌ أنت هذا الرجل؟!

فقال: إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي. قال: فما لك في واحدةٍ من الخصال التي عرض عليكم رضاً؟

فقال: أما والله لو كان الأمر لي لفعلت، ولكن أميرك قد أبى.

فأقبل الحرُّ حتى ضرب فرسه قاصداً إلى الحسين (ع) ويده على رأسه، وهو يقول: اللهم إليك تبت فتب علىَّ، فقد أرعبتُ قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيك... وإني قد جئتك تائباً مما كان مني إلى ربي، ومواسياً لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفَتَرَى لي توبة؟

فأجابه الحسين: نعم، يتوب الله عليك ويغفر لك، فانزل.

هذا المعنى نقرؤه في كتاب «الحُرُّ... إنسان بين خيار الفاجعة والفلاح» لعالم الاجتماع علي شريعتي عندما يقول: «وها هو الحُرُّ يبدأ هجرته العظيمة... هجرةٌ مسافتها ما بين أصناع الشرك ومدينة الشهادة، وقد طواها الحرُّ في مدة «نصف نهار» بتصميم وبضع خطوات... مسافة طولها طول الأبد... وطريقها من الشيطان إلى الله.

لم يخفِ شريعتي إعجابه الشديد بشخصية الحر الذي انتقل من معسكر الباطل إلى معسكر الحق في ظرف ساعات من نهار، لدرجة أنه يدفع بالقارئ نحو عمل فني إبداعي يشترك فيه مجموعة من المخرجين والمسرحيين وكتَّاب السيناريو والقصة وفق أسمى القيم الإنسانية السامية وأروع الخيال وأقواه، فيا ترى كيف سيكون شكل القصة؟

العجيب في هذه القصة ـ حسب شريعتي ـ أن البطل الذي يختار الفلاح مع الحسين إنما هو ذاك القائد المؤمَّر على جيش الفاجعة الضابط الذي كان مكلَّفاً أساساً بتعقُّب المجاهدين على رأس دورية عسكرية، إلا أن الظرف الذي تمَّ فيه الاختيار وبهذه العظمة لم يستغرق ذلك عمراً من التجربة والتأمل والوعي التدريجي، وإنما تمَّ ذلك في ساعةٍ من نهار، صباح يوم عاشوراء! أي في الساعة الأخيرة من عمر الحرِّ، وفي آخر فرصة تاريخية بالنسبة له.

لقد أراد شريعتي أن يوجّه القارئ إلى الحكمة الإلهية من اختيار «الحر بن يزيد الرياحي» كأنموذج لصحوة الضمير وللإنسان الحر الذي يبحث عن الحقيقة أنَّى وجدها.

لقد خَيَّر الحرُّ نفسه بين أن يبقى إنساناً حُرّاً أبياً وبين أن يكون صفراً ذليلاً، «إني أخيّر نفسي بين الجنة والنار»؛ لتكون النتيجة الشهادة بين يدي الحسين (ع) الذي قلَّده وسام الحرية «أنت الحرُّ كما سمَّتك أمك»!

إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"

العدد 3732 - السبت 24 نوفمبر 2012م الموافق 10 محرم 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً