العدد 3801 - الجمعة 01 فبراير 2013م الموافق 20 ربيع الاول 1434هـ

لماذا لا نشتاق إليهم؟

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

عندما سافرتُ للدراسة في أميركا قبل سبعة عشر عاماً، وكنتُ أول أصدقائي الذين اتخذوا قراراً بالدراسة في الخارج، تجمّع عدد كبير من الأصدقاء والأحباب لتوديعي في المطار. كان المشهد غريباً، فلم يكن أصدقائي هم الذين حضروا فقط، بل بعض أصدقاء أبي أيضاً.

كانت تلك أصعب رحلة في حياتي، حيث لم أكتفِ بالبكاء في الطائرة، بل أصابتني حُمّى في الطريق من لندن إلى واشنطن. تكيّفتُ مع المكان بصعوبة، حيث كانت واشنطن مدينة جافة، هكذا أتذكرها، وكنتُ أقول لأبي كلما تحدثتُ معه عبر الهاتف بأنها مدينة مُظلمة؛ مليئة بالسيارات الدبلوماسية السوداء ولا تصلح للطلبة.

ومازلتُ أحتفظ بالرسائل التي كانت تصلني من أهلي وأصدقائي عندما كنت هناك، فلم يكن البريد الإلكتروني حينها إحدى الوسائل المتاحة للجميع. وفي يوم من الأيام وصلتني رسالة من أحد أصدقائي يشتكي إليّ فيها مِن غيابي، ويُطالبني بالعودة لأُصلح بينه وبين صديق آخر كما كنتُ أفعل دائماً. أما أمّي فلقد كانت تحكي لي في رسائلها عن كل شيء يدور في حياة العائلة، ولم تكن تنسى أن تُذيّل كل رسالة بحضِّي على الصلاة، وتذكيري بأنها تحبني وتدعي لي في كل ليلة. وأجمل رسالة كانت من أبي؛ حيث صارحني، لأول مرة، بمدى حبّه لي، وكيف كان يشعر بفقدٍ في حياته بعد غيابي.

وعندما عدتُ من السفر كان حضور الأصدقاء في المطار طاغياً، وكانت المشاعر والدموع تملأ الأحداق والمكان، حتى أن بعضهم كان يحمل وروداً في يديه فشعرتُ بأنني غبتُ عقداً وليس عدة أشهر. وفي البيت تحلّقت الأسرة حول مائدة كبيرة في وليمة جمعت الكبار والصغار.

واليوم، كلما عزمتُ على السفر حجزتُ تذكرتي من الموقع الإلكتروني لشركة الطيران، وفي الصباح أستقل سيارة المطار، وعندما أصل أتجه ناحية المِنصّة الآلية وأقوم بشحن الحقائب لوحدي ثم آخذ بطاقة الصعود من الجهاز، وأتجه إلى الطائرة دون أن أتحدث إلى أحد، ودون أن يعلم أحد، تقريباً، بأنني مغادر.

أقضي أياماً خارج الوطن دون أن أتلقى اتصالاً إلا من المُقرّبين، ولا أتكبد عناء الاتصال بأحد ولا أرسل رسالة هاتفية إلى أحد أيضاً. والمشكلة الرئيسية هي أنني، كغيري من الناس، لم أعد أشتاق كثيراً إلى أحد، ولا أفتقد الأشياء والأماكن والأشخاص كما كنتُ أفعل في أيام الدراسة.

ماذا جرى لنا؟ وأين اختفى الاشتياق؟ ولماذا صار الفقدُ عملاً رجعياً، أو مملاً، لا نمارسه إلا مرة كل عدة سنوات! لقد كنا نحزن، قديماً، عندما يموت لنا قريب، أما اليوم فصرنا نبكي لدقائق ثم ندفنه وننصرف من المقبرة ونحن نتحدث حول العمل والتجارة ومشكلات الحياة. كنتُ في المقبرة قبل سنوات لحضور جنازة امرأة عجوز، وكان خلفي مجموعة من التجّار يتحدثون ويضحكون بصوت منخفض. وبعد شهر مات أحد أولئك التجار، وعندما وقفنا على قبره قلتُ في نفسي: ماذا لو كان يعلم، عندما كان في هذا المكان نفسه قبل أيام، بأنه سيفارق قريباً، هل سيزور من يحب؟ وهل سيتصل بأصدقائه القدامى ليقول لهم بأنه اشتاق لقضاء ساعة معهم كما كانوا يفعلون في الأيام الخوالي؟ لماذا لم نعد نفتقد الآخرين كثيراً؟ لماذا فارَقَنا الشعور بالحاجة إلى سماع صوت من نُحب؟ وربما يكون السؤال الصحيح هو: هل فقدنا القدرة على الاشتياق؟ نحن على اتصال دائم بالناس جميعاً، في «تويتر» و «فيسبوك» وغيرهما من وسائل الاتصال، ولكن هل الذين اعتنوا بنا، وشجّعونا، وصدّقونا، وآمنوا بنا، وأحبونا، ضمن هؤلاء الناس؟ لماذا ننتظر الفراق الأخير لنشعر بأننا نشتاق حقاً؟ لم تكن لديّ إجابة عن هذه التساؤلات إلى أن اتصلت بي طفلتي عائشة قبل عدة أيام وطلبت مني أن أعود إلى البيت وأحملها كما كنتُ أفعل دائماً، فضحكتُ وسألتها عن سبب إصرارها فقالت لي: «قالت لي المعلمة بأنني كبرت، ولقد قلتَ لي مرة بأنك لن تستطيع حملي عندما أكبر. تعالَ بسرعة». أقفلتُ الخط واتجهتُ إلى البيت مباشرة وأدركتُ بأننا لا نشعر بالأشياء الجميلة حتى نفقدها.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3801 - الجمعة 01 فبراير 2013م الموافق 20 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 9:41 ص

      مقال رائع

      سؤال يستحق المناقشة

    • زائر 2 | 12:35 ص

      لا نشعر بالأشياء الجميلة حتى نفقدها.

      بالفعل لا نشتاق الى احد ولا نخبر احد بسفرنا وبعودتنا ؟ لماذا ؟ بصراحة هل اثر فينا الزمن ؟ هل تغيرت قلوبنا ؟؟ انا حقيقة لا اعرف ما السبب ؟؟؟

    • زائر 1 | 11:43 م

      لأن الحياه أصبحت هكذا

      أخي العزيز شكرا على الموضوع الجميل.
      لأن الناس أصبحوا هكذا.
      في السابق الحياه كانت بسيطه وسهله.
      والان أصبحت الحياه معقده وصعبه لأن البشر يريدونها هكذا.
      عصريه بالقول ولكن معقده بالفعل.
      نحن من عقدناها.
      فلنترك الجانب المظلم وننظر للجانب الجميل.
      النفوس تغيرت والعقول مقفله والاحاسيس أنفقدت
      خلها على الله
      وتسلم على الموضوع الحلو

اقرأ ايضاً