العدد 1539 - الأربعاء 22 نوفمبر 2006م الموافق 01 ذي القعدة 1427هـ

شعبية الحكام والنظم أم شعبية كرة القدم؟

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

ظلت نخبة المثقفين وصفوة السياسيين والحكام، تروج عبر الأزمان المتتابعة، أن هوس كرة القدم قاصر على العموم والدهماء من الناس، هم وحدهم وقود هذا الهوس، يسيرون في ركابه سير المنقاد بعقلية القطيع، خالي العقل ضعيف الفكر معدوم الثقافة.

بهذا الحكم القاسي، أرادت النخبة احتكار الثقافة والفكر، مع احتكار السلطة والسياسة والحكم، إضافة طبعاً إلى احتكار الوجاهة الاجتماعية، والإطلال عبر الشاشات بملابس أنيقة، وحضور المؤتمرات بطلعات بهية، والتحدث إلى الناس بفدلكات غامضة، وألفاظ مقعرة، استجلاباً للأهمية واحتقاراً للعامة!

غير أني أعتقد أن لعبة كرة القدم قد غيرت المعادلة في العقود الأخيرة، ولم يعد هوسها قاصراً على العموم والدهماء كما قالت النخبة، لكنها اقتحمت أخيراً مجالات عدة في الحياة، وأهمها مجال السياسة الذي طالما غلفوه بالغموض والسرية، بغرض الاحتكار وحده!

تعالوا ننظر في الأمر على النحو الاتي...

بداية لست محرراً رياضياًولا محللاً كروياً، لكني واحد ممن يتابعون أحياناً هذه اللعبة الشعبية الأولى منذ الطفولة والصبا، وماازال صالح سليم رحمه الله، بالنسبة إلي هو نموذج اللاعب الفذ والقائد الحازم والرئيس الشعبي، الذي اكتسب حب الملايين واحترامهم، ومازلت بالتالي أبحث اليوم عن مثيله...

من هذا المنظور، الذاتي والضيق غالباً، أرصد هذه التطورات الشعبية الهائلة، التي باتت تواكب كرة القدم في بلادنا، وفي كل بلاد العالم، وأجد أن اتساع الشعبية بهذا الشكل المذهل له أسبابه الموضوعية، التي تتفوق على أسباب شعبية كبار الحكام والزعماء والقادة السياسيين والمفكرين، المؤثرين في حياة الشعوب والأمم بقرارات علوية وسياسات تحكمية...

في الماضي كنا ننظر إلى هذا الأمر نظرة سلبية، تقوم على مقولة مصكوكة عبر العقود والعهود، تدعي أن النخبة السياسية والفكرية، هي المتآمرة وحدها على زيادة الهوس الشعبي بكرة القدم، لكي تلهي الناس عن همومهم، وتشغل الشعب عن مطالبه، وفي الوقت نفسه تقوم بالتنفيس عن الاحتقانات السياسية والاجتماعية والأزمات الاقتصادية المختلفة، لكي يصفو الجو للحكام بعيداً عن منغصات المحكومين.

وأظن أن ذلك كان ولايزال صحيحاً إلى حد ما، إلا أنه ليس وحده العنصر الوحيد والرئيسي في المعادلة. إذ إن هذه الشعبية الجارفة لكرة القدم، أصبحت تلعب دوراً سياسياً نشيطاً للغاية، يتجاوز بكثير دور الأحزاب السياسية الكثيرة، ودور الحكومات التليدة، بما في ذلك أولئك القادة الذين يدعون الشعبية وحب الجماهير والتفاف الشعب الهاتف دوماً بالروح بالدم نفديك...

الدور السياسي لكرة القدم هذه الأيام، يقدم لنا، ولكل النخبة بجلال عليائها المتكبر، الصورة البديلة لمفهوم الشعبية والصدقية، ويضع النخب والحكومات والنظم والحكام في موضع الحرج، حين نقارن بين شعبيتهم جميعاً، وبين شعبية كرة القدم، لعبة ولاعبين، ويقول لنا بالفم المليان، إن البعض يكتسب شعبيته وصدقيته من الناس والعموم مباشرة حين يقدم لهم دليل الصدق والأمانة، والبعض الآخر يظل يقاتل ويصارع إلى آخر حياته طلباً للشعبية وادعاء للصدقية، وهو فاقدها لأنه يعامل الناس والعموم على أنهم رعايا أو رعاع!

مساء 11نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري أصبت برجفة وذهول، حين ارتجت مصر من أقصاها إلى أقصاها بصرخة واحدة مدوية، عندما سجل النادي الأهالي هدفاً قاتلاً في مرمى الصفاقسي التونسي، محرزاً بطولة الأندية الإفريقية للعام الثاني على التوالي... على التوالي أيضاً وفي لمح البصر كانت الشوارع من حولي تضج بالاحتفالات الشعبية الصارخة والأعلام الحمراء القانية،و مظاهرات الفرح الغلابة كانت هي الحاكمة والتلقائية...

قلت لنفسي ما هذا الهوس المنفلت، ثم تراجعت حين حفرت الفكرة في عقلي، فقلت من أين كل هذه الشعبية، ولماذا،و ما مصادرها وهل هي فرحة زائلة، أم شعور واقتناع مستمر؟

بعد 24 ساعة، قرأت في الصحف أن ما بين 200 ألف وربع مليون رجل وامرأة وطفل تزاحموا حول مطار القاهرة، في ليلة باردة، انتظاراً لوصول «الأبطال الأكثر شعبية» قادمين من «غزوة تونس على حد وصف بعض الرياضيين»، وحين هبطوا فجراً سارت الزفة مخترقة القاهرة التي لم تنم...

عدت أسأل نفسي، هل هذا هو هوس الكرة يندلع وفرحة الحزانى تنفجر، أم هي شعبية حقيقية لأقوى حزب سياسي في مصر، أستطاع أن يستقطب في لحظة مئات الآلاف، خرجوا طواعية، ذهبوا من دون دعوة رسمية موشاة بماء الذهب، احتشدوا من دون أوامر تجنيد وحملات دعاية وتعبئة، من دون ضغط أو إكراه أو إغراء أو ترغيب أو تهديد، ومن دون رشوة مدفوعة سراً لزوم الهتاف؟!

واتحدى أن يلقى أي مسئول أو حاكم، مثل هذا الاستقبال الجماهيري، بصورة طوعية وبحماس حقيقي صادر عن القلب... قلب الناس والعامة، بعيداً عن عصا السلطة وأوامر الأمن وإشراف الأجهزة وتجنيد المواكب المحمولة براً وبحراً وجواً، الأمر الذي يجعلنا نعود إلى الفكرة المركزية، أي سر في هذه الشعبية التلقائية، من أين تأتي، ما مصادرها؟!

من دون الدخول في جدل مع المتفذلكين، ممن سيشبعوننا نقداً أو قدحاً بسبب هذا الحديث، نقول إن أهم مصادر الشعبية تكمن في رسوخ الشرعية والصدقية، في النزاهة والشرف، في تطبيق القانون بالتساوي، في الأمانة والشفافية، في الوفاء بالعهود، في القدرة على ترجمة آمال الناس والتعبير عنهم بصدق، في إسعاد الشعب وتوفير أسباب السعادة له، سواء كانت سعادة اجتماعية اقتصادية، أو سعادة سياسية فكرية، أو حتى ترفيهية...

ونظن أن هذه كلها حزمة متكاملة، تدخل في صميم السياسة، وتنص عليها الدساتير والقوانين العادلة، ويجب ان يؤديها الحكام وأولو الأمر، ويتطلع إليها الشعب، ويتشوق لها العامة من الناس، من دون أن يدلهم أحد من المتفذلكين العتاة، على أن هذه هي جوهر الحرية وأساس الديمقراطية الحقيقية، ولذلك صارت مصدراً للشرعية وللشعبية معاً...

ومن الواضح أن كرة القدم بشعبيتها الطاغية، تقدم لنا بديلاً حقيقياً للسياسة بمفهومها السائد، سواء كان مفهوماً أكاديمياً كلاسيكياً، أو مفهوماً شعبياً فضفاضاً، فتعطي لنا وللسياسيين وخصوصاً لفقهاء السلاطين وترزية القوانين، دروساً ليس فقط في الأخلاق والأمانة والالتزام، ولكن أيضاً في العمل بجدية، والقتال من أجل تحقيق الهدف، والالتزام بالوعود والخطط، والدفاع عن العرين «الوطن» بشراسة، والهجوم على الخصم «العدو» بشراسة أكثر، من دون مداراة أو مراوغة مكسوفة أو مكشوفة!

فإن كانت هذه دروس تقدمها لنا كرة القدم في هذا الزمان، بديلاً للسياسة العاجزة، بحيث أصبح بعض لاعبيها أشهر وأكثر شعبية وحباً وقرباً لعامة الناس، من أشهر السياسيين وأقوى الحكام وأشدهم بأساً على عامة الناس، فماذا تقدم لنا السياسة بحالها الراهنة غير الأزمات التي لا تحل، من أزمة الفساد إلى أزمة الاستبداد...

ولا بأس إذاً أن نقبل الفكرتين معاً، فكرة أن هوس كرة القدم وشعبيتها الجارفة، ترويح عن المهمومين المكدودين، أو حتى الهاء المطحونين بعيداً عن ضيقهم السياسي وأزماتهم الحياتية، الاقتصادية والاجتماعية من ناحية، وفكرة أن كرة القدم وأنديتها وفرقها، أصبحت البديل الشعبي للحكومة والأجهزة الرسمية والأحزاب السياسية، التي عجزت عن استيعاب الناس و تلبية مطالبهم وفك أزماتهم، وها هي تقدم لهم كيف تكون الشعبية الحقيقية، ومن أين تأتي الشرعية السليمة، مثلما تقدم لهم نماذج جديدة من القدوة، نجوم كرة القدم، بدلاً من قدوة النخب المتكبرة والسياسيين العجزة ومستشاري السوء. من ناحية أخرى!

استهوتني المقارنة امتداداً للخط على استقامته، فبعد أن قارنا بين الشعبية الكروية والشعبية السياسية، وتحدثنا عن مصادر شرعيتها وصدقيتها، قلت لنأخذ معياراً أخر من تلك المعايير، التي تقاس بها شفافية المشاركة في إدارة الكرة، وإدارة السياسة في بلادنا العزيزة، فوجدت أن نسبة التصويت في انتخابات النادي الأهلي الأخيرة «أقوى حزب شعبي»، تتراوح ما بين 88 في المئة و91 في المئة، بينما كانت نسبة التصويت العام في الانتخابات البرلمانية العامة الأخيرة العام 2005 لا تزيد على 21 في المئة من الناحية الرسمية، وهي أقل حتماً من الناحية الواقعية، وهذه مقارنة بسيطة، لكنها تعكس أموراً كثيرة...

وأخيراً...

قد يتصور البعض أني أخرف تحت تأثير الهوس الكروي السائد، و قد يتهمني المنافقون إياهم، بأني اهزل في موضع الجد، إذ كيف أقارن السياسة بكل شموخها وتعقيداتها بكرة القدم بكل لهوها ولعبها... غير أني انظر إلى الأمر كما أسلفت من منظور جدي فعلاً، وأرى أن ضيق الأفق السياسي، المصحوب بالاحتقان، المعادي لمصالح الناس والكاره لمشاعرهم، قد دفع الغالبية الشعبية البسيطة والصادقة في الوقت نفسه، للبحث عن ملعب أخر ولاعبين مختلفين صادقين مقاتلين، وعن أحزاب وكفاءات وقدرة مغايرة، تكتسب شرعيتها وشعبيتها من جموع البسطاء، الذين ينفجرون فرحاً بالنصر حين يأتي بمشقة وكفاح، وينكسرون حزناً حين تحل الهزيمة ولو كانت عارضة!

فهل يصلح الدرس لمن يدرس ويفهم ويتعظ؟

* خير الكلام: قال الفيلسوف بيدبا في كليلة ودمنة:

لا تلمس تقويم ما لا يستقيم، ولا تحاول تأديب من لا يتأدب

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1539 - الأربعاء 22 نوفمبر 2006م الموافق 01 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً