العدد 1540 - الخميس 23 نوفمبر 2006م الموافق 02 ذي القعدة 1427هـ

موقف الإسلام من الإعاقة ... تاريخية الإهتمام والرعاية

ميز الفقه الإسلامي، بين الإعاقات على أساس مبدأ الأهلية. فقد تناولت عدة مراجع فقهية درجات استحقاق الأهلية ودرجات فقدانها في حالة الإعاقة الذهنية خصوصاً، وهو ما لا نرى داعياً للدخول في تفاصيله، نظراً لشساعة الموضوع ولتضارب اجتهادات الفقهاء بصدده. لكن يهمنا أن نسجل أن الإسلام لم يقف مكتوف الأيدي أمام مسألة الإعاقة وما يطرحه حاملوها من قضايا تهم في الصميم مبادئ التآزر والعدل وتكريم الإنسان. وقد ازداد موقف الإسلام في هذه القضية قوةً، بسبب أعداد المصابين الذين كانت تخلفهم مختلف الحروب والغزوات التي انطلقت منذ صدر الإسلام، وهو ما يفسر أن العديد من أولئك كانوا يشاركون في الدورة العادية للحياة على قدر ما تسمح به قدراتهم. قد يكون ذلك في إسعاف الجرحى ومواساتهم، كما قد يكون في تحضير الأسلحة ولوازم العتاد الحربي، وغيرها من المهام اليدوية التي كانت لها قيمة كبرى في حينها، على اعتبار أن المجتمع الإسلامي الجديد كان يعبئ كل قواه المادية والبشرية للدفاع عن نفسه ونشر مبادئه.

والمعروف عن الإسلام من ناحية أخرى، أنه إلى جانب النص على المبادئ الأصلية والمطالبة بالالتزام بها، فتح باب التيسير والمرونة وهو الأمر الذي استفاد منه الأشخاص المعاقون، مثلما جاء في سورة النور : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج، ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم، أو بيوت أمهاتكم، أو بيوت إخوانكم، أو بيوت أخواتكم، أو بيوت أعمامكم... ( الآية 61 ). ورفع الحرج هنا ليس انتقاصاً من أهلية الأعمى أو الأعرج، فكرياً واجتماعياً، ولكنه فتح للباب أمامهم، من أجل التواصل الاجتماعي، والقرآن الكريم والسنة النبوية صريحان في موقفهما المبدئي من ضرورة عدم تجاهل الشخص المعاق وإعطائه الاعتبار الذي يستحق، انطلاقاً من كونه إنساناً أولاً، وقبل كل شيء، يعيش مع الآخرين في مجتمع ويتفاعل معهم داخله، وقد وجدنا أفضل تعبير عن هذا الموقف في الحديث النبوي الشريف الذي رواه البخاري ومسلم :«ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

يمكن القول إذن، إن الموقف القرآني والنبوي من الإعاقة ومن حالات الأشخاص المعاقين، كان إيجابياً، بل إنه تاريخياً، كان متميزاً، حيث قام العديد من الخلفاء المسلمين بمبادرات طلائعية لصالح المعاقين. ويرى الأستاذ النصراوي أنه «... لما ازدهرت الحضارة الإسلامية اعتبرت الإعاقات بمختلف أنواعها أمراضاً تتطلب العلاج والتأهيل، وقد ظهر أطباء مثل الكندي والرازي وابن سينا اعتمدوا التجربة والتحليل العلمي في الطب، واعتبروا أنه لا دخل للشياطين في الإعاقات الذهنية.

كما أسس الوليد بن عبد الملك سنة 707 (88 هـ) أول معهد للمتخلفين ذهنياً، ثم أسس بعد ذلك بيمارستان بغداد، سنة 756 (137 هـ)، الذي كان أول بيمارستان خاص بالأمراض العقلية، ثم انتشرت هذه المؤسسات في شمال إفريقيا ومنها إلى أوربا عبر إسبانيا. لكن لما أتى القرن الخامس عشر، انطفأت هذه الشعلة العلمية وعادت الشعوذة والخرافات والدجل إلى مفاهيم الإعاقة في العالم العربي والإسلامي»(18). وحسب ما ورد في النبذة التاريخية بكتيب «التأهيل الاجتماعي» الصادر عن وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية سنة 1993، فإن «الخليفة الوليد بن عبد الملك هو أول خليفة جعل لكل أعمى قائداً يقوده ولكل مقعد خادماً يخدمه».

وضع المعوق في المجتمعات الإسلامية المعاصرة

يصعب على الباحث أن يقوم بوضع جرد تاريخي دقيق لتطور مكانة الشخص المعاق داخل المجتمعات الإسلامية خلال أربعة عشر قرناً. إلا أننا نفترض أن تدهور الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي ميز عصور تراجع الدولة الإسلامية وتفتتها إلى أقاليم وإمارات، قد يكون انعكس بشكل واسع على أوضاع الأشخاص المعاقين. لأن هؤلاء الأشخاص يمثلون في كل مجتمع فئةً هشةً وأوضاعها مهزوزة، وحين يستقر المجتمع ويتقدم تتحسن أوضاعها، وحين يتخلف المجتمع أو تصيبه أزمة عنيفة تتقهقر أحوالها.

حاولنا وضع هذا التصور المنطقي، لكي نحاول فهم المفارقة التي حدثت بين الموقف المبدئي الراقي للإسلام من وضعية الأشخاص المعاقين، وبين الأحوال التي آلت إليها أوضاع هؤلاء الأشخاص، حيث أصبحوا في العصور المتأخرة من المهمشين وغير المرغوب فيهم.

لقد عاشت المجتمعات الإسلامية في العصور الحديثة حالات تمزق وتشرذم مما انعكس على مستويات الحياة الاجتماعية كلها، كما أن سيطرة الأجنبي على ثروات هذه المجتمعات وخيراتها بالاحتلال العسكري المباشر، رمى بمعظم الساكنة المسلمة إلى مستويات معيشية متدنية. فهل في أحوال كهذه يمكن مطالبة المجتمع بالبقاء وفياً للمنظور الأخلاقي والإحساني الذي دعا إليه الدين ؟ يرى سعد الدين إبراهيم في دراسته عن «قضية المعاقين في الوطن العربي : الملامح والمعالجة»، بأن ذلك «يعني أن قضية الإعاقة، وإن تناولناها بمعناها الجسدي والعقلي، فإن علينا ألا نغفل البعد المجتمعي الشامل على مستوى وضع العالم الثالث بالنسبة للنظام العالمي، أو بالنسبة لوضع مختلف الفئات أو الجماعات الداخلية الأقل حظاً، والأكثر حرماناً داخل كل مجتمع من مجتمعات العالم الثالث نفسها»(18).

بمعنى أوضح، إذا كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لدول العالم الإسلامي قد عرفت أزمات كبرى، فإن الذين يؤدون الثمن مضاعفاً داخل تلك الدول هم المستضعفون غالباً، من معاقين ومهمشين وغيرهم من أصحاب الوضعيات الهشة. إنه بكلمة، المجتمع المعاق الذي يضاعف من إعاقة الأشخاص الجسدية لتصبح إعاقات مركبةً: اقتصاديةً واجتماعية وجسدية.

يجب الاعتراف باختصار بأن أوضاع الأشخاص المعاقين في معظم دول العالم الإسلامي بصفتها بلاداً ناهضة، هي أوضاع بعيدة عما دعا إليه الإسلام من خلال آيات القرآن الكريم وآثار السنة النبوية. إن الفرق بين المبدأ والواقع جلي وواضح للعيان، اذ للأسف الشديد يعاني المعاقون من مشاكل لا حصر لها، تبدأ من التشخيص الطبي والرعاية الصحية والتغطية الاجتماعية، وتمر عبر التنشئة الصحيحة والتربية السليمة والتكوين الملائم والتأهيل المناسب، والظروف العائلية والبيئية المساعدة، لتنتهي إلى الانخراط السليم في الحياة العامة حسب الإمكانات والطاقات.

فهل انتبهت هذه المجتمعات إلى ما تعيشه من مفارقات بين واقع معاقيها وبين الخطاب حولهم ؟ هل أعدت الحكومات خطط عمل لتفعيل المبدأ الإسلامي على أرض الواقع ؟

نود أن نؤكد أننا، ونحن نتساءل حول واقع الأشخاص المعاقين في المجتمعات الإسلامية، نعي تمام الوعي أنها أوضاع متباينة وغير متجانسة، لكننا اعتمدنا الفرضية العامة لكونها تضم القواسم المشتركة، أما التفاصيل فربما يأتي الحديث عنها لاحقاً. من جهة أخرى ترى معظم الكتابات العربية الموجودة بين أيدينا، أن ما حدث على صعيد الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية بصدد إثارة حقوق الأشخاص المعاقين طيلة العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، كان له تأثير كبير على ما سيجري داخل العديد من بلدان العالم الإسلامي لصالح الأشخاص المعاقين. حيث يمكن الحديث عن أن روح العصر أصبحت تتلخص في بضع كلمات بليغة هي : حقوق، ديمقراطية، مواطنة، تنمية مستدامة.

حسن الحارثي

كاتب سعودي

العدد 1540 - الخميس 23 نوفمبر 2006م الموافق 02 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً