من وثيقة وفاء الشاعر تقي البحارنة لأهل بيته وبنيه، يتحول الشاعر إلى وثيقة وفائه لرفاق دربه وأهل مودته وصحبه الذين طواهم الردى، وخبطت في ساحتهم المنية خبط عشواء، فلم تمهلهم ولم تترك لهم فرصة للبوح بآخر الأشعار والأسرار. فجاء الشاعر ليرسم أساه وعزاءه شعراً وجدانيّاً رقيقاً امتزج مداده بعبرات العين، واختلطت حروفه بزفرات الحزن. فكان المحور السابع للعبرة والموعظة من «صروف الدهر» التي تسرق الفرحة من كل قلب ومقلة، وتغتال الآمال بلا أدنى رحمة، وتصادر ما تبقى من الأحلام، وتزرع بذور الآلام في كل خلية من خلايا الأرواح المحبة الصادقة.
وهنا تنبعث أصداء الجو الجنائزي الذي صاغته مرثياته المفعمة بآيات الترحم والثناء وبنشيج الحسرة والبكاء على ثلة من رجال العلم والقلم، يتقدمهم فقيد الشعر ورائد الأدب البحريني الكبير إبراهيم العريض الذي جمعته بالشاعر صداقة بل أخوة تتجاوز حدود الشعر وأسوار القوافي. فنجد الشاعر يسكب عبراته وزفراته على قبره تترى، وينسجها شعرا وذكرى:
نثرت دموعي فيك فانتظمت شعرا
وتلك القوافي بالدموع هي الأحرى
تعهدتها ريع الشباب لا وزهوه
وكهلا وفجرت البيان بها سحرا
فواحزنها إذ قام بالنعي قائم
ويا شوقها أن تلثم اللحد والقبرا
وإن كان يدري لمعة الحزن والهٌ
فإن بنات الشعر هن به أدرى
ولا يفوت الشاعر التغني بشاعرية الفقيد وبآثاره ومواقفه الخالدة:
وثقفت جيلا مستنيرا بعقله
ليبدع فنا، أو يمد له فكرا
وترقص بالألحان منك «عرائس»
من الشعر لم تترك لمغترف بحرا
فكم خلجة أوحى بها فن مبدع
وكم قصة سال اليراع بها شعرا
أضأت «شموعا» يعبد الفن راهب
بمحرابه والليل أرخى له سترا
أبا الفن من سحر البيان ووحيه
تجليته شعرا، وأبدعته نثرا
ومنزلة للشعر أنت ابتدعتها
ليسمو على كل الفنون بها طرّا
وفي هذا الجو الجنائزي تصبح النفوس مهيأة لترديد الابتهالات وإسقاط العبرات، لكن هل ينفع الفقيد البكاء والنواح والصرخات؟
ما بكاء الحبيب من فوق قبر
وجفون تسخو بوابل قطر
أترى ينفع الفقيد عويل
ونواح أو لطم خد وصدر
ليس يدري بما يكون وهل
يزداد نفعاً به إذا كان يدري
وهنا يبدأ الشاعر في مواساة نفسه، يسيطر على مشاعره، ويستدعي ثقافته الدينية أمام هذا المصاب الجلل، ليستمع إلى صوت الإيمان الصادر من أعماقه، وهو يشرح حقيقة الموت وعبرته:
إنما الموت يقظة، ولها في
أوجه المحسنين أفراح بشر
ليس تبقى للمرء غير سجاياه
إذا أسلمت إلى حسن ذكر
ودعاء من قلب كل محب
يترجى عفو القدير الأبر
وبصوت مفعم بالذكر والدعاء والابتهال، يسطر الشاعر تضرعاته الخاشعة بين يدي باريه وخالقه، يرجو القبول والرحمة وحسن الخاتمة:
يا إلهي أنت المعاذ فهب لي
في غدي موعداً إلى كشف ضري
لم أجد ملجأ سوى رحمة منك
وتقوى في جهرة أو سر
وبعدما سال مداد الشعر مع الدمع مدرارا، وانسابت القوافي مع الزفرات والابتهالات غزارا، يشعل الشاعر قنديل الحياة في أعماقه، ليضيء له الزوايا المعتمة، وينعتق من أسر الأحزان ويتحرر من قيد الأسى، وينطلق إلى تمثال الجمال، يناجي الأرواح والأطياف والظلال المقيمة في الذاكرة.
يغني أغنية الأشواق، ويردد سيمفونية الخلود التي جعلها خاتمة لهذا الخضم الهائل من الأحاسيس المتباينة. فوضع لها عنواناً لا يقل رومانسية عن نغماتها العذبة، يختزل رؤيته الحالمة المتفائلة والعاشقة للحياة (أشواق). ففي هذا المحور الأخير يلبس الشاعر عباءة العذريين ويستعير لغتهم ومعجمهم، ويستحضر مواقفهم وتجاربهم. فنجده يرسم لوحات شعرية وجدانية تعيد إلى الذات اعتبارها، وتجعلها محورا ومدارا. تحضر الذات الشاعرة بمعاناتها وجراحاتها من أثر العشق ووطأة الصبابة. تعاني من فراق الأحبة والخلان، يستبد بها الحب والشوق، ويؤلمها الشك والهجر والأرق، حتى صارت كعصفور مقصوص الجناح يكتوي بنار الهجر ولهيب النواح:
إني ذكرتك فاذكريني
وإذا لقيتك فارحميني
قاسيت من ألم الفراق
من جنونك أو جنوني
وشربت كأساً بالصبابة
لم أذقها من سنين
زيدي عذابي، فالشجون
تذوب في نار الشجون
أشكو إليك هواك في
قلبي وتسهيد الجفون
ومن اشتياقي يكتوي
بالشك حيناً، واليقين
وفي مناسبة أخرى يصبح الشاعر معشوقاً على نمط عمر بن أبي ربيعة فيعطي لشعره الحق في البوح بما يعتمل في قلبه من ذبذبات العشق وأحاسيس الغرام وترانيم الهيام. فها هو يلحن مقطوعة رومانسية صاخبة تتفاعل معها المشاعر وطبقات النفوس في ليالي الأفراح والأنس:
يا سائلا عني و أين مكاني
إني جلست على فم البركان
كل المليحات الحسان بجانبي
وأخـال كل مليحة تهواني
ألحاظهن وآه من نظراتها
تلك التي ارتعشت على أجفاني
مظاهر شعرية الخطاب في الديوان
بعد هذه القراءة الأفقية الاستقرائية لمحاور الديوان، تتبدى لنا ذات شعرية حاضرة بقوة بين ثنايا النصوص وفي أعماق الصور وخلف الألفاظ والعبارات. ذات شعرية لها من الخصوصية والتميز ما جعلها بارزة تدل على أصالة المبدع وعلى صدق التجربة والشعور في شعره، كما تدل على تمكنه من الأدوات الفنية التي تؤهله لممارسة فعل الإبداع الشعري بكفاءة عالية ومقدرة متميزة. أول ما يسترعي انتباه القارئ هو امتياح الشاعر ممارسته الشعرية من مصدرين فنيين ومعرفيين متكاملين؛ من الموروث الشعري بمقوماته الفنية وبغنى رصيده اللغوي والدلالي والفني، ومن الحداثة الشعرية بما تطرحه من إمكانيات لتكسير النمط وتجاوز النموذج واستحداث تجربة شعرية جديدة تحترم التراث ولا تقدسه، وتنهل منه ولا تقلده. وقد تجلى هذا التنوع المرجعي بوضوح على أكثر من واجهة.
البناء الفني
فمن حيث البناء الفني للنصوص الشعرية، يكشف الديوان عن ثلاثة أشكال بنائية: القصيدة (مداعبة) (حوار بين أغادير وإيموزار) (أستاذنا المرحوم)، المقطوعة (زواج) (في مجلس الشورى) (أسماء وأفعال)، الأشطر (تحية للبحرين) (في متحف الإنسان)، ( في ذكرى فقيد الوطن). وإلى جانب التنويع في الشكل الفني للنصوص الشعرية، اهتم الشاعر كثيراً بالتنويع في البناء الإيقاعي. وذلك في اعتماده على الأبحر الخليلية بمختلف أشكالها التامة والمجزوءة، الفخمة والسريعة، وفي انتقائه للأوزان التي تنسجم مع الوضعيات النفسية ومع طبيعة الموضوع، وتستجيب لمستوى الضغط الذي تمارسه الولادة الشعرية. كما تتجلى عناية الشاعر بالجانب الموسيقي في تنويعه للقوافي ما بين المطلقة والمقيدة. فالأصوات النهائية للقوافي تخدم الدلالات، وتجسد الانفعالات. وكذا تفعل التكرارات وأنواع التوازي وباقي العناصر الموسيقية التي استعان بها الشاعر لتضخيم الجانب النغمي في ديوانه.
لقد أبدى الشاعر احتراماً كبيراً للتقاليد الشعرية، وأظهر وفاء للقصيدة العربية الكلاسيكية، ولم يمنعه احترامه ووفاؤه من ممارسة فعل التجريب في ساحة الحداثة. وفي كل ذلك حافظ الشاعر على صوته الشعري وعلى خصوصية تجربته. ولهذا تنوعت البنية الهندسية لنصوصه وتنوعت بنيتها الإيقاعية تجسيداً لهذا الانفتاح وانسجاماً مع ما تقتضيه الحالة الشعورية. (قصيدة: في متحف الإنسان) و(قصيدة: في ذكرى فقيد الوطن).
ومن أهم ما يطبع الممارسة الشعرية عند تقي البحارنة هو تنوع القول الشعري ما بين الغنائية والدرامية و الملحمية. فاللغة الذاتية مبثوثة في ثنايا النصوص، وبمحاذاتها تحضر اللغة التراثية من خلال استدعاء للمعجم العربي القديم، كما تبرز لغة الحكي المرتبطة بالنزعة القصصية السردية الواصفة والأسلوب الحواري. وهي خصائص جمالية بقدر ما تدل على غنى وتنوع وانفتاح التجربة الشعرية، بقدر ما تعمق درجة تفاعل القارئ مع النصوص الشعرية لحظة التلقي. (أرض الشهداء)، (أم الشهيد)، (حوار بين أغادير وإيموزار)، ( في متحف الإنسان)، (نجمة المغرب). ونجد مجموعة من العوامل السياسية والثقافية والاجتماعية قد عملت عملها في المبدع، وأثرت في ممارسته الشعرية، وطبعتها بطابعها الخاص. فالنص الشعري عند تقي البحارنة يتميز باحتضانه إشارات عديدة تنفتح على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي. وهي إشارات معبرة ورامزة إلى خصوصية التجربة الشعرية عند هذا الشاعر، كما تعكس شخصيته وتدل على تجربته الحياتية. ولهذا فالقصائد والمقطوعات الشعرية تتمظهر بشكلين مختلفين فهي وثائق فنية ومستودع لحمولة فنية وجمالية ورؤية شعرية خاصة من ناحية، وهي من ناحية ثانية وثائق فكرية ونصوص تسجيلية توثق للأحداث وترسم الوقائع وتؤرخ المناسبات في قالب شعري بديع. وهكذا يتأثر الحدث الشعري بحسب الوظيفية التي يفرضها السياق التخاطبي.
العدد 3899 - الجمعة 10 مايو 2013م الموافق 29 جمادى الآخرة 1434هـ