العدد 1574 - الأربعاء 27 ديسمبر 2006م الموافق 06 ذي الحجة 1427هـ

رجل البحرين الماضي

عبدالرحمن الباكر ...

عدت من شرق إفريقيا الى وطني البحرين بعد أن رأيت ألا جدوى من بقائي في منطقة لاقيت فيها المتاعب الجمة إثر الخسائر المادية التي منيت بها حيث أخذت المصائب تتتالى عليّ بعد نشوة الارباح الطائلة التي اكتسبتها ابان الحرب، والسعادة التي غمرتني طيلة أربعة أعوام، طرأت بعدها حوادث ذات أهمية كبرى: عندما نصحني أحد التجار الذين كنت أشتغل معهم في التجارة بأن أغادر زنجبار... بعد أن أخذت المخابرات البريطانية تلاحقني على إثر الخطب الحماسية التي كنت ألقيها في الاجتماعات الشعبية في زنجبار ودار السلام لتأييد فلسطين الذبيحة ومناوأة الدول الاستعمارية التي خلقت المسخ المسمى «اسرائيل» ومطالبتي بمقاطعة سفن أمريكا وبريطانيا وفرنسا وبضائعهم. فرأيت أن من الأفضل مغادرة البلاد قبل أن يطلب مني ذلك رسمياً، وفعلاً نفذت ما اعتزمت عليه وغادرت زنجبار الى ممباسا ثم بمباي ومن هناك الى البحرين .

وأذكر بهذه المناسبة أنني لما ألقيت خطابي في الجماهير الحاشدة في زنجبار بمناسبة خلق المسخ المسمى «اسرائيل» واعتراف الدول العربية بها قال لي أحد كبار الانكليز وكان حاضراً الاجتماع: كنت أتصور أن هتلر قد مات ولكن يظهر لي أنه بعث من جديد في شخصك... ثم أضاف بكل هدوء: ليت قومك أعدوا عدتهم قبل فوات الأوان. إن الدول السبع التي تذكرها ليست إلا دمى يحركها موظفون عاديون في الاستخبارات البريطانية! أقول لك يا صديقي إن فلسطين ضاعت من أيديكم ومن يدري فقد يطول بكم الأمد لاسترجاعها، مالم تحدث معجزة وتتغير الأوضاع في بلادكم وتصبحوا بعد ذلك أصحابها الشرعيين. أما الآن فلا جدوى من الصراخ وستسمع عن قريب بأن «اسرائيل» فرضت على العرب بالقوة. وفعلاً ، لقد تم ما قاله الانكليزي، لأنه عليم ببواطن الأمور.

إبان ذلك العهد كنت أحمل طيلة أسفاري تذكرة مرور من القنصلية البريطانية بصفتي من رعايا قطر ويعود ذلك الى عام 3391 حين نزحت مع عائلتي الى قطر بعد أن أصيبت بنكسة مالية أفقدتها كل ما تملك في البحرين، فلم يبق لها إلا أن تعود إلى موطن الآباء والأجداد في قطر خلال تلك الأعوام... أعوام ما قبل الحرب وجدت أن قطر لا يمكن أن تصلح لي فسافرت الى دبي وأخذت أمتهن تجارة اللؤلؤ ولحقني والدي بعد ذلك وأذكر أنني أخذت أزاول نشاطي مع شباب من الشارقة ودبي. وأذكر كيف أننا أصدرنا نشرة يومية كنا نكتبها باليد سميناها (صوت العصافير) وكنا ننتقد فيها الأوضاع المحلية بأسلوب لاذع ونهاجم الاستعمار البريطاني الذي بدأ يثبت أقدامه في الشارقة، حين عين السيد عبدالرزاق ارزوقي وهو كويتي الجنسية ليكون ضابطاً سياسياً لساحل عمان وكان هذا الرجل في ذلك الحين عبداً من عبيد الاستعمار البريطاني وكان وحده أقوى من أية مدمرة حربية في ذلك الحين. وقد لعب دوراً مشيناً في ساحل عمان. وأمات الروح القومية المتوثبة في تلك المنطقة والتي أججها تأثر معظم امارات ساحل عمان بوثبة العراق بعد استقلاله، تلك الروح التي انتجت تكوين المجلس التشريعي وانتهاج سياسة عربية صرفة كادت تنجح، لو تم لها البقاء ولم يتألب عليها المستعمر والرجعية وأعوانهما من كل جانب ويقضوا عليها، ولو قدر لذلك المجلس عمر أطول لتقلص النفوذ الاستعماري والشعوبي من ساحل عمان. ولكن السيد عبدالرزاق تمكن بأموال الحكومات الرجعية التي كانت تدفع لحبك الدسائس والقضاء على الوثبة النامية في مهدها أن يخدع مانع بن مكتوم وجماعته ويدعهم ينامون على فراش من حرير حتى ظنوا أنهم في مأمن من الإنكليز إلى أن جاءتهم الضربة من حيث لم يحسبوا. ويعلم الله أنني نبهتهم في عام 8391 قبل أن تحدث الحوادث المفجعة ألا ينخدعوا بالانكليز لأن وراء إغماضتهم وتساهلهم أمراً يدبرونه للإطاحة بمانع ورفاقه. ولكن مانعاً رحمه الله كان كثيراً ما يعتد بنفسه الى درجة أنه كان يقول ان بإمكانه محاربة الإنكليز وحده.

نعم لقد قضي على ذلك الرضيع وهو في مهده. وكم كان أملنا وأمنيتنا... أن تمضي دبي متآزرة مع الكويت وتحذو حذوها البحرين فيما بعد، عندما تجمع أمرها تحت قيادة مؤمنة بصالح الشعب حتى تكون نواة لحياة أفضل للمنطقة كلها. وبداية لاتحاد إمارات الخليج العربي مع العراق إبان نهضته التي قضى عليها نوري السعيد وأعوانه وحولها لصالح المستعمر والرجعية في المنطقة العربية.

وبالرغم من تقدم البحرين العلمي والحضاري على كلا الامارتين في ذلك الوقت، الا أنها لم توفق الى قادة شعبيين يمكنهم جمع الكلمة ووحدة الصف للانضمام مع أبناء عمومتهم في الكويت ودبي ضمن إطار اتحاد يزيل الحواجز التي صنعها المستعمر واذنابه. اذ لم تكن الحركة التي قامت في البحرين في عام 8391 ذات طابع وطني أو اجماعي، إنما كانت ذات مصالح شخصية قام بها نفر موتور اندفع العمال وراءهم ظناً منهم أنهم يعملون للصالح العام(...) ولهذا لم يكتب لتلك الحركة النجاح ولو مؤقتاً كما حصل في الكويت ودبي اذ تمكن شعب الامارتين من تأسيس مجلس تشريعي وإدارة دفة البلاد لولا أن الاندفاع اللاعقلي من قبل المتحمسين من المشرفين على التنظيم في البلدين قضى على تلك الحركة حينما رأى الانكليز وهم أصحاب الشأن والكلمة العليا أن يقضوا عليها فأمروا حكام الإمارتين باستعمال العنف وكان ما كان من أمر المجلسين وعادت الرجعية تستشري في المنطقة تساندها حراب الانكليز الى يومنا هذا.

ونعود للسيد عبدالرزاق الذي أثرى ثراء فاحشاً طيلة اقامته في ساحل عمان، ولكن الله انتقم منه فيما بعد فعزله الانكليز بعد ان استنفذوا غرضهم منه وخسر كل ثروته ولولا اريحية شعب الكويت وتجارها الذين سارعوا الى مساندته بحكم أنه كويتي والكويتيون غيورون على مواطنيهم فساعدوه وشدوا أزره حتى استرجع بعض الذي فقده لأصبح اليوم فقيراً معدماً شأن الكثيرين من الايرانيين الذين استعملهم الانكليز اذناباً لهم في البحرين وفي بوشهر والمحمرة. ومن المؤسف أنه الآن يمثل الكويت في الاردن. ويا حبذا لو أن حكومة الكويت تستغني عن أمثال السيد عبدالرزاق.

السفر من دبي

لما وجدت أن دبي ليست الارض الصالحة لانماء ثروتي بالنسبة لضآلة رأس المال استأذنت والدي في السفر الى شرق إفريقيا بواسطة السفن الشراعية فوافقني على تلك الفكرة، واتفقت على ذلك مع صاحب سفينة شراعية صغيرة حمولتها خمسون طناً وكل الذي كان معي هو تسعمئة روبية. فاتفقت معه على أن تكون السفينة تحت إمرتي الى ميناء زنجبار اشحن فيها من البضائع ما أشاء وأتوجه الى أي ميناء من الموانئ في طريقي الى زنجبار وأبيع وأشتري كل ذلك مقابل أن ادفع له في زنجبار الفاً وخمسمئه روبية. وكانت الروبية في ذلك الوقت لها قيمتها بالنسبة لرخص الاشياء فالروبية في ذلك الزمن تعادل عشر روبيات في وقتنا هذا.

أبحرت من ميناء دبي وكان ذلك في نهاية عام 4391، وتوجهت الى ميناء الخابورة في ساحل عمان التابع لسلطنة مسقط وعمان. وهناك اشتريت تمر «الفرض» وهو نوع من التمر الممتاز رائج في أسواق افريقيا، ثم بعد ذلك توجهت الى صور موطن صاحب السفينة ومكثنا هناك مدة قصيرة ثم توجهنا في طريقنا الى سقطرة ثم الى حافون وهو أول ميناء للصومال الايطالي المتجه نحو افريقيا، وصادف أن كانت حكومة ايطاليا تعد نفسها لحرب الحبشة في ذلك الوقت وكانت جميع المرافق الحيوية والمعيشية بيد حاكم المنطقة فاشترى مني جميع البضائع التي كانت معي من تمر وغيره وكانت سفينتي أول سفينة تفتح الموسم كما يقولون، وربحت أرباحاً طائلة نتج عنها أن أخذ صاحب السفينة يحسدني على تلك الارباح وهو يعلم رأس مالها ويعلم أنني ربحت حوالي خمسة عشر ألف روبية. وبعد مكوثنا بثلاثة أيام جاء الى ميناء «حافون» السيد عبد الرزاق بن عيسى القطامي من الكويت في سفينة كبيرة حمولتها اربعمئة طن وكانت مشحونة بالتمر. وكان يريد أن يبيع التمر ليشحن ملحا الى ممباسا وزنجبار، فاشتريت منه تمراً بصرياً قدر ما تسع سفينتي وتوجهت الى الموانئ الصغيرة وهناك بعت التمر في هوبيا من الساحل الصومالي واشتريت من هناك جلودا وسمناً وغير ذلك وتوجهت بعد ذلك الى مقديشو وصادف أنني كنت اشتريت بعضاً من الاقمشة في حافون وصرفتها في مقديشو مع الجلود وغيرها، واشتريت من مقديشو سمناً وأشياء أخرى وتوجهت رأساً الى زنجبار فوصلتها وبعد حسابي من حصيلة تلك الرحلة تبين لي أنني ربحت حوالي 52 ألف روبية وهذا شيء كثير بالنسبة لرأس مالي وهو تسعمئة روبية.

وما أن وصلت زنجبار حتى وجدت والدي قد سبقني الى هناك اذ جاء من الهند وجلب معه بعض البضائع وصرفها.

استغرقت هذه الرحلة الشاقة الممتعة في نفس الوقت من ميناء دبي الى ميناء زنجبار ماراً بتلك البلدان التي ذكرتها حوالي شهر ونصف وقد ربحت فيها هذه الارباح الطائلة.

المصائب والنحس!

الا أن النحس الذي يلاحقني في كل مكان لم يشأ هذه الثروة أن تبقى في يدي فقد أخذها والدي وترك لي حوالي خمسة آلاف روبية لاستأجر سفينة واشتري بضائع وأتوجه بها الى الخليج وأخذ هو المبالغ الباقية.

وأخذت المصائب تلاحقني. أبحرت من زنجبار بعد أن اشتريت بضائع كثيرة، وعرجت بها على مقديشو مرة ثانية وبعت فيها بعض البضائع واشتريت بضائع أخرى ثم توجهت بها الى المكلا والشحر وبعتها بأرباح لا بأس بها وتوجهت بعد ذلك الى سيحوت من بلاد المهرة لشراء زيت السمك الذي تدهن به السفينة الشراعية والسمك المجفف للحيوانات وكانت أسعاره مغرية بالربح في منطقة الخليج. وبعد أن تم لنا شحن كل شيء هبت الريح العاصفة المتوقعة في ذلك الوقت وكانت النتيجة أن تحطم الصاري الكبير وأصيبت السفينة بخرق اضطرنا أن نقذف جميع البضائع في البحر، وظللنا نكافح الغرق عشرة أيام حتى وصلنا مسقط ونحن على حال من الاعياء والتعب لا يتصوره إنسان ولم يكن لدي من الدراهم الا ثلاثة آلاف ريال فضة (ماري تريزا) سلمت لصاحب السفينة ألفا واحتفظت بألفين على أن أنزل مسقط من جديد.

إقامة مؤقتة في «مطرح»

اتخذت مطرح وهي المدينة التجارية الثانية بعد مسقط مقراً لي وأخذت أدرس أحوالها وأختلط بشبابها ومعظمهم من الجالية الهندية (الحيدر أبادية) وينتمون الى طائفة الشيعة وقد أرشدتهم الى تأسيس ناد أدبي رياضي وكتبت لهم القانون الاساسي وأشرفت على انتخابات أول مجلس اداري للنادي وأعطيتهم كل الكتب التي كانت معي وهي كتب قيمة مثل الكامل للمبرد، والأمالي للقالي، مع ألفية ابن مالك لابن عقيل، وحديث الاربعاء للدكتور طه حسين، وبين الكتب والحياة للعقاد، وشعراء العراق المعاصرون لرفائيل بطي، وغيرها من أمهات الكتب التي لا اذكرها الآن وكانت حوالي خمسة وعشرين كتابا.

أخذت أزاول عملي التجاري بين مطرح وساحل الباطنة والجبل الأخضر، ومكثت على هذا المنوال حوالي ستة شهور ثم اضطررت للعودة لحنيني الى والدتي وعائلتي ولم أكن أعرف شيئا عن مصير الدراهم التي أخذها والدي مني. في خلال الشهور الستة استطعت أن أكون لي ثروة تقدر بحوالي عشرة آلاف روبية فرأيت من الأحسن أن اشتري بضائع من مسقط لأبيعها في دبي ولم أكن خبيراً في ذلك الوقت بأصناف تلك البضائع فكنت أسمع أن اللومي المجفف والتنباك لهما سوق رابحة هناك فاستأجرت سفينة تابعة لابوظبي واشترطت على صاحبها أن نعرج على دبي فإذا لم نوفق أنزلنا البضاعة في أبوظبي، وشحنت السفينة باللومي المجفف والتنباك والجندل وهو حطب (المنكروف) ووصلت الى دبي بعد رحلة استغرقت خمسة عشر يوما لعدم وجود الرياح المسيرة للسفينة، ولم أجد من يشتري بضاعتي اذ إن اللومي ليس بالنوع الجيد وكذلك التنباك ليس بالنوع الجيد والجندل موجود منه كميات كبيرة لهذا توجهت الى أبوظبي وأنزلت بضاعتي وفتحت لي محلا لبيعها ومكثت هناك حوالي شهر. وفي هذه الاثناء جاء أخي عبد الله وهو أكبر مني سنا. بعثه والدي ليلح علي بالعودة مع بضاعتي كلها ونزولاً عند رغبته شحنت ما لدي من بضائع وارسلتها الى قطر. ورجعت من تلك السفرة المضنية الشاقة وكفاح عام كامل ما بين دبي وافريقيا صفر اليدين (وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا).

عودة الى الوطن:

ضاقت بي قطر على سعة أرضها فرأيت الرجوع الى البحرين وهي البلدة التي أرتاح فيها لوجود أصدقائي وزملاء الدراسة الذين آنس بهم ويأنسون بي. ورجعت الى البحرين عام 6391 وفتشت عن وظيفة فلم أتحصل عليها في دوائر الحكومة لأن مستشار حكومة البحرين قد حرم علي ذلك فاضطررت أن أشتغل فراشاً في شركة نفط البحرين براتب قدره خمس وأربعون روبية شهرياً وصادف من حسن الحظ وهذا أول مرة يصادفني حسن الطالع أن كل الشباب الذين كانوا يشتغلون في المركز الرئيسي للشركة هم أصدقائي ويعرفون مكانتي ومكانة عائلتي فأحاطوني بعنايتهم ثم رتبوا مع رئيس كتبة الدائرة الشخصية أن يعينني مترجماً للبيانات التي تصدرها الشركة بالانكليزية لأتولى ترجمتها بالعربية وبعد ثلاثة أشهر زيد راتبي الى الضعف وكان في ذلك الوقت مبلغاً لا يستهان به. وحينما وطدت نفسي وثبت مركزي في الشركة بدأت أزاول نشاطي السياسي والأدبي فأسست نادياً أدبياً رياضياً في منطقة شركة النفط مع نخبة من الشباب الذين كانوا يشتغلون في الشركة وقد لقي هذا النادي المعارضة الشديدة من مستشار حكومة البحرين ولكن الشركة رفضت كل احتجاجه ومزاعمه حول خطورة المشرفين عليه وعلى رأسهم أنا. وقد لعب هذا النادي دوراً فعالاً فيما بعد ونظم الحركة العمالية في عام 8391 حينما كان التذمر على اشده من سياسة بلغريف الاستعمارية.

مصائب جديدة:

بعد مضي ثمانية أشهر على تمركزي في الشركة عاد النحس الي من جديد: فقد جاءت الطامة الكبرى والفاجعة الاليمة بوفاة أخي الأكبر في مأساة مؤلمة اذ احترق في مخزن للبنـزين في قطر ولم يخرج أخي رحمه الله الا والنار قد التهمت كل جسمه، ولعدم وجود الاسعافات الأولية في قطر ولعدم وجود مستشفى في ذلك الوقت فتكت القروح بجسمه ولم يصل البحرين الا بعد سبعة أيام من الحادث ولم يستطع الأطباء في البحرين إنقاذه فتوفاه الله وهو في ريعان الشباب وكان من خيرة الشباب وعياً ووطنية. والجدير بالذكر أنه لم يذهب الى مستودع البنـزين في الليل الا بدافع الصداقة مع صديق له بحراني كان موظفا لدى سلاح الطيران البريطاني وكان زميلاً له في الجامعة الامريكية فأحب أن يساعده في جرد الموجود في المستودع فكان القضاء متربصاً به فمات هو ونجا صديقه فذهب رحمه الله ضحية الوفاء.

وظيفة في قطر:

أصبح العبء ثقيلا بالنسبة لي... فاضطررت الى ترك وظيفتي في البحرين والتوجه الى قطر لأكون بالقرب من افراد العائلة لأواسيهم في مصابهم الاليم.

لم يمض علي وقت حتى توظفت لدى شركة نفط قطر براتب قدرة مئة روبية، وكان هذا الراتب مغرياً يسيل له لعاب كثير من الناس... وظفت كمترجم بالرغم من ضحالة معرفتي باللغة الانكليزية حينذاك وقد استطعت في خلال ثلاث سنوات أن اشغل مركزاً هاماً في الشركة وزيد راتبي وكنت أتولى بالاضافة الى الترجمة دائرة شئون العمل والعمال تحت إشراف مهندس أجنبي حتى أنني كوفئت من قبل الشركة مكافأة سخية حين عطلت أعمالها في اوائل عام 1491 - عندما أعلنت اليابان الحرب واضطرت الشركة الى تعطيل اعمالها.

بعد تعطيل الشركة اعمالها التحقت بوالدي في دبي، وكان عنده محل صغير أما محل اقامته مع عائلته فكان في رأس الخيمة. واتفقت معه على أن نشترك في الاعمال ويسلمني كل ما لديه وكان مجموع ما يملك في ذلك الوقت حوالي ستة عشر ألف روبية وهو مبلغ بسيط بالنسبة لأيام الحرب.

بدأت اشتغل على نطاق واسع وفي ظرف اربعة شهور بلغت الثروة الى خمسة وسبعين ألف روبية فاقترحت على والدي أن اجعل مركزي في احد موانئ شرق إفريقيا في ممباسا أو زنجبار لأتولى عملية ارسال البضائع للخليج على أن نوجد لنا شركاء، فوافق على اساس أن اختبر المسألة أول الأمر فاذا نجحنا في عمليتنا عند ذلك يمكننا أن نتصل بأصدقائنا في البحرين والكويت والبصرة لتأسيس شركة معهم.

بدأت سفرتي الى ساحل الباطنة... ومن هناك اشتريت سفينة حمولتها خمسون طنا واستأجرت سفينتين أخريين ثم توجهت الى مسقط واستأجرت سفينة ثالثة وتوجهت الى صور فاستأجرت سفينتين أخريين فأصبح مجموع السفن التي معي خمساً مستأجرة وسفينة خاصة بي، شحنتها بالتمر والسمك وغيرها من البضائع وتوجهت الى ممباسا وبعت البضائع التي معي بأرباح ممتازة. واستأجرت محلاً لي ولأولاد عمي الذين اشتركوا معي في الرحلة وبدأنا نشتغل في داخل ممباسا نشتري من السوق ونبيع البضاعة على السفن الاخرى الراسية، فكوّنا أرباحاً طائلة.

كان علينا أن نستعد للرجوع، كما كان علينا أن نشحن تلك السفن بالضائع المرغوبة كالسكر والشاي والمواد الطبية والسمن وزيت السمسم والنارجيل وزيت الفستق والمرجرين والسلاح والذخيرة وكانت متوفرة يبيعها الجنود البريطانيون بأنفسهم ويوصلونها الى المكان الذي يريده المشتري وكانت تدر أرباحاً كبيرة في ساحل عمان وايران.

أبحرت اثنتا عشرة سفينة شراعية معظمها لنا ولتجار اتفقنا معهم بالشراكة ووصلت السفن بالسلامة الى الموانئ التي ارسلناها اليها. وكان عاماً مريحاً مما دعاني الى أن اعدل عن السفر بالسفن الشراعية واتخذت الجو في اسفاري من البحرين الى القاهرة الى نيروبي ثم الى ممباسا منذ عام 2491 الى 8491 وتارة عن طريق الزورق النهري من كوستي الى جويا ثم يوكندا ثم تنجانيقا وبعد ذلك الى ممباسا او دار السلام. حتى كان عام 8491 وقد دار دولاب الزمن على كثير من المتخمين ابان الحرب وواصلوا مغامرتهم فأصيبوا بالنكبة اما الذين ارتضوا بالغنيمة فبقوا محافظين على ثرائهم وكنت من الذين فقدوا كل شيء ماعدا النـزر اليسير.

ثم الى البحرين:

عدت الى البحرين كما ذكرت في منتصف عام 8491 وكان أول شيء فعلته بعد رجوعي مباشرة أن طالبت باعطائي جواز سفر بحرانياً وفعلاً أعطيت رغم المعارضة الشديدة من قبل مستشار حكومة البحرين وكان اصرار حاكم البحرين على اعطائي الجواز بحجة أنني بحراني وعائلتي معروفة منذ القدم في البحرين وقد شهد جميع المسئولين في الدوائر الحكومية من اداريين وشرطة ومحكمة بأني بحراني ومولود في البحرين.

حينما أعطيت جنسيتي البحرانية بدأت أواصل نشاطي الاجتماعي والسياسي... حاولت أن أوحد الاندية الوطنية فلم أفلح، واعترضتني عقبات جمة... وذلك لتغلب العناصر الطائفية والاقليمية على مجلس إدارة تلك الأندية ما عدا نادي العروبة الذي يحمل الطابع القومي ويمد يده لمن يريد الالتقاء معه على الصعيدين الوطني والعربي ولقد ضحكمت كثيرا حين قرأت كتاب البحرين ودعوة ايران تأليف أحمد محمود صبحي حينما زعم بأن نادي العروبة للشيعة. وبالرغم من وجود هذا المؤلف في البحرين مدة ثلاث سنوات فانه على ما يظهر لي لم يختلط الا بجماعة معينة من الطائفيين السنيين الحقودين على نادي العروبة... ولو تمعن صاحبنا المؤلف لوجد أن نادي العروبة كان بعيداً كل البعد عن الطائفية والاقليمية?

العدد 1574 - الأربعاء 27 ديسمبر 2006م الموافق 06 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً