العدد 4011 - الجمعة 30 أغسطس 2013م الموافق 23 شوال 1434هـ

سؤال الحرية وإشكالية المؤامرة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

سؤال الحرّية يطرح دائماً إشكاليّة احتكار الديمقراطية، وترجيح احتمال نجاح القوى الإسلاميّة في المنافسة وإقدامها لاحقاً على منع تداول السلطة وغيرها من فرضيات تستبق ما يمكن أن تنتجه الوقائع الميدانية. المرجّح أن لا يحصل مثل هذا الأمر، وذلك لأسباب لا تعود إلى عوامل ذاتية بقدر ما هي تتّصل بالظروف الموضوعية والبيئة الثقافية المحلية والفضاءات الإقليمية والدولية. فالقوى الإسلامية الخارجة إلى دائرة الضوء ليست بعيدة عن «الحداثة» التي حاولت فرضها السلطات السياسية من «فوق»، معتمدةً الوسائط القسرية والعنفية لتحقيقها. فالخطاب الإسلامي (الأصولي أو السلفي أو الإخواني) هو في النهاية نتاج العصر لا الماضي. وهو تحديداً نتاج فشل التحديث الذي حاولت السلطات الاستبدادية فرضه من طريق القوة والتعايش السّلبي مع أطياف المجتمع.

الإسلاميون هم محصلة سياسية لأزمة الحاضر حتى لو جاء خطابهم الإيديولوجي قاصراً أو ردة فعل على استبداد السلطة. وإشكالية السؤال عن مدى استعداد القوى الإسلامية على الانقلاب ضد الديمقراطية و»الربيع العربي» لا تختزل في النصوص التي تعتمدها في التعامل مع قضايا العصر، بل في عدم قدرتها أساساً على سرقة السلطة واحتكارها بعد الوصول إليها من طريق صناديق الاقتراع. فمن يصل إلى السلطة بالغدر ومن طريق الدبابة لا يذهب إلا غدراً أو بواسطة دبابة. ومن يأتي بالاستيلاء والسلب لا يذهب إلا بالسلب المضاد والاستيلاء والانقلاب. ومن يأتي بالتزوير والتلفيق والخداع وبالتآمر مع القوى الخارجية، يسقط حين تتغير الظروف والمصالح والمعادلات الدوليّة. وأيضاً من يأتي عبر التصويت وصناديق الاقتراع يخرج من السلطة بالتصويت وصناديق الاقتراع. لذلك لا خوف من الإسلاميين وغيرهم مادامت مسألة تداول السلطة أصبحت من المسلّمات السياسية في المرحلة العربية الانتقالية. فالإشكالية لا تقتصر على الخطاب السياسي ومضاعفاته وإنّما على البيئة الثقافية التي أنتجته وراهنت عليه.

تكمن المعضلة في استبداد الدولة أساساً (أعطى الاستبداد فرصةً لنمو مشروع الشرق الأوسط الجديد)، وهي تتمثل في غياب الدستور الذي يرسم عادةً هيكل الجماعة الأهلية، وتتفاقم بالتوازي مع طغيان السلطة الفئوية السياسية التي تشجّع على نسج عوامل تؤطر المجتمع وتشدّه إلى الالتصاق بالحلقات الطائفية والقبلية الضيقة التي تشبه كثيراً تلك الحالات العصبية التي أتى على ذكرها ابن خلدون في مقدمته. تشكّل العصبيات السياسية الآن الإطار الخاص والمنظّم لجماعات أهلية انحشرت قسراً في حلقات تمتلك آليات للحماية والحشد، وهي في مجموعها العام لا تخرج على دائرة المنطقة أو الجهة أو الطائفة أو المذهب وأحياناً القبيلة أو الناحية وما تفرزه التضاريس الطبيعية الاجتماعية من اختلافات. ويعتبر اختلاف هويات التضاريس الاجتماعية مشكلة تتحدى النموذج البديل الذي سيتشكّل بعد تساقط السّلطات المستبدة (تشرذم ليبيا مثلاً).

وهذا الاختلاف ليس مستعصياً على الحل، لكنه يتطلب قراءة تاريخية تبتعد عن لغة الإحباط أو التهرب من المسئولية. المشكلة موجودة وتجاهلها خطأ، وهي حتى تكون قابلةً للاستيعاب والتجاوز، تحتاج إلى فترة زمنية انتقالية (حقبة اختبار) ورؤية سياسية تحفر في الواقع بدلاً من شتمه أو الاحتجاج عليه بالندم والبكاء على الماضي أو الارتداد إلى المربع الأول وحقبة الانقلابات العسكرية. فالقراءة الحفرية للواقع تساعد على إزالة الكثير من الملابسات وتوضح مغالطات صورة مفترضة عن عالم غير موجود إلا في المخيلة. فالعودة إلى رؤية الواقع واستقراء خريطته السياسية وتضاريسه الطبيعية الاجتماعية توصل في النهاية إلى تشكيل صورة منطقية تقارب المشهد الذي أخذ ينجلي بعد انهيار سلطات الاستبداد وصعود الإسلام السياسي.

كذلك المعضلة لا تختصر في خطاب الأصالة الإسلامي، لأن المشكلة ليست فقهيةً بقدر ما هي اجتماعية ـ تاريخية، تتّصل بالتكوين الديموغرافي للجماعات الأهلية (القبائل، الطوائف، المذاهب، الأقوام، إلخ) وتوازنها السكاني (الأكثرية والأقليات). وبهذا المعنى تصبح المسألة محكومةً بالاجتماع البشري وما يعانيه من حالات تصدّع كانت ناجمةً أصلاً عن فشل «التحديث» القسري وما نتج منه خلال نصف قرن من إيديولوجيّة مشوّهة أخذت بدفع الجماعات الأهلية إلى الانطواء خوفاً من استبداد السلطة.

ضعف منظومة «الحداثة» في البلدان العربية أضعف مختلف القطاعات المعاصرة القادرة على الاستقطاب والإنقاذ وقيادة التحوّل. الحزب الحديث مثلاً فشل في استقطاب غالبية انتخابية (تصويتية) في مجتمعات لا تزال تاريخياً في طور ما قبل الحداثة. وبسبب هذه المعضلة الموضوعية (البنيوية) فشلت أحزاب النخبة المعاصرة في تشكيل قوة موازية للتكتلات الأهلية وما يتفرع عنها من قوى تقليدية لا تزال تمتلك في الظروف الراهنة إمكانات تقرير أو التأثير على توجهات الرأي العام. فالطبيعة الاجتماعية للتطور التاريخي تفرض في النهاية شروطها السياسية على الجماعات الأهلية، لأن البناء الهرمي للمجتمع ينقسم إلى تكتلات (طوائف، قبائل، أقوام في مناطق جهوية، أقليات منعزلة...الخ) وليس إلى طبقات اجتماعية متعارضة تتحرك سوياً لحسابات مشتركة تجتمع على قاعدة المصالح الاقتصادية.

إلى ذلك، هناك ما يمكن تسميته بالاحتيال الايديولوجي على الناس (تزوير الواقع) من خلال تكيّف «الحزب الحديث» مع جماعات أهلية تخضع لشروط تاريخية سابقة لطور الحداثة. وهذا النوع من الاحتيال الايديولوجي يمكن ملاحظته من خلال متابعة أسماء الجمعيات السياسية المدنيّة التي تخرج إلى الجمهور بقناع حداثي، لكنها في واقع الأمر مجرد إطار تنظيمي يعكس تلك الانشطارات الأهلية (الحزب الطائفة، الحزب القبيلة، الحزب الجهة/المنطقة، الحزب الأقلية، والحزب القوم... وغيرها).

هذه الطبيعة الاجتماعية لتوزع الجماعات الأهلية على تكتلات، وليس طبقات، أنتجت صورة سياسية مشابهة لها، فالأحزاب المتماسكة أيديولوجياً هي تلك التي تكون الأكثر تجانساً مع التكوين السياسي للجماعة الأهلية (أحزاب لبنان الطائفية مثلاً). وهذا النوع من التكور السياسي الناتج أصلاً من ضعف الطبقة الحديثة وغياب وحدة المصالح في مجتمع منشطر أهلياً وغير منقسم مدنياً، يفسّر إلى حد معين ضعف الأحزاب المعاصرة وعدم قدرتها على اختراق الجماعات الأهلية أفقياً لتشكيل منظومة علاقات متوافقة على برنامج سياسي يتحايل على الواقع ويتجاوز المربعات البنيوية المتوارثة (الطائفية أو القبلية أو الأقوامية والأقلوية).

أعطى هذا النوع من الاحتيال الايديولوجي المعطوف على بؤر أهلية خائفة (هاجس الاختلاف والتمايز)، فرصة للقوى الإسلامية بالتقدم ميدانياً والنجاح في الانتخابات التي جرت في بلدان «الربيع العربي». فالقوى الإسلاميّة استفادت في آن من أدوات «الحداثة» ومخزون الموروث، حين نجحت في توظيف فشل الأحزاب المعاصرة واستقطبت فئات تنتمي إلى عائلات ومناطق مختلفة (متباعدة ومتنوّعة) وأخذت بتنظيمها في إطارات (منظّمات) تتجاوز الانتماءات الإيديولوجيّة الحديثة أو الولاءات المحلية، ما وضعها على رأس لائحة التّنافس في الانتخابات. وبهذا المعنى الاجتماعي ـ السياسي يصبح فوز القوى الإسلامية مجرد خطوة انتقالية في مرحلة فوضى سياسية تعكس مستوى الوعي والتطور في لحظته الراهنة، وليس نتاج مؤامرة دولية على «الشرق الأوسط».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 4011 - الجمعة 30 أغسطس 2013م الموافق 23 شوال 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:19 ص

      مقاومت الإغراء الأمريكي مدار رأس جحا من دورة المال

      كشفت الفوضى الخلاقه أو المصنوعة لزيادة تفتيت الشعوب وتقسيم المقسم وتجزيء المجزاء لإعادة تركيبة حسب ما خططت له شركات استثمارية – تجارة حرة بلا حدود جغرافيه يعني. وليس سراً أن ما كشف عنه تقرير للجنة تقصي الحقائق إلا عن ما كشفه الدكتور صلاح البندر. يعني المخطط مصهون ممركن إنجليزي عبراني وممكن إخوانيا في البحرين. هذا يمكن يعني أن الأمريكان مستور عليهم ومتسترون وراء جمعيات تعاونيه تستلف من البنوك بالسلف وتمول مشاريع. هل هذه أطماع جديدة مبتكره يعني لدورة رأس المال؟

    • زائر 3 | 12:58 ص

      حرية مساكين مساجين أفكار جاهلية - أنت معي أو ضدي

      عند مراجعة التاريخ الميلادي والهجري نجد أن من الجماعات التي تعدت على الشعوب تارةً بإسم الدين وغزوا ونهبوا وسلبوا، اليوم بإسم الحرية والديمقراطيه. فاذا كان الدين معاملة أليس من الصواب أن تعامل الناس مثل ما تحب أن يعاملوك؟ وهل الديمقراطيه اليونانية الأصليه يعني وليست المزوره والمشوها الأمريكية كما شوه الاسلام بجماعات عدوانية لنشر دين ليس له علاقة صداقة ولا صلة رحم بعضهم البعض. فمن أين جائوا بدين عدواني إخواني؟ ومن أين جائت الديمقراطية الجديدة؟

    • زائر 2 | 12:44 ص

      اووا ليس الرجوع الى الحق أفضل من إشاعة الفوضى بإسم الحريه

      قد يكون الكثير غير معترف أو ما يعرف حدوه لعدم معرفته حدود الله التي بينها في كتبه السماوية. فكل إنسان حر لكن تنتهي حريتيه عند ما تبدأ حرية الآخرين قالها أفلاطون وغيره من الحكماء. كما الحكم بالرأي باطل لكون الآراء لا تجتمع ورضى الناس غاية لا تدرك ودائما مختلفون في الرأي ووجهات النظر كذلك كثيرة. موضوع مشورة أراء أو ديمقراطية يصويت هذه من البدع التي إبتدعت أو إبتكرت لكي يغلب فريق على آخر بالعدد لا بالصواب والخطاء أو الصالح والطالح. فقد يكون من مصلحت جماعة بينما يضر آخرين.

    • زائر 1 | 12:42 ص

      الحيلة وما أدراك ما المبررات

      ليس بسر أن الرجوع الى الجاهلية والاقطاعية وحكم القوي وغياب العدالة بسبب الحرية الغير محدده. رأس المال ودورة المال وإستعباد الناس وإستبعاد التفكر والتفكير في أن النقد ودورته البنكيه من الأسباب الرئيسيه التي قادة العالم الى الهاويه الاقتصاديه. فيقولون بالاقتصاد إلا أن الإسراف أقرب الى معنى الإقتصاد المزعوم. فلو نظرنا حولنا الطبيعة قد دمرة وأخلاق الناس تراجعة فلا إحترام لا للإنسان ولا الى الطبيعة. أليست هاوية رأسماليه رأس مالها يمكن يكون عقود وإتفاقات ومعاهدات لنهب الذهب الأسود والغاز..؟

اقرأ ايضاً