العدد 4044 - الأربعاء 02 أكتوبر 2013م الموافق 27 ذي القعدة 1434هـ

مقاسات في الديمقراطية

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

سويسرا، أو بشكل أدق، الاتحاد السويسري. مُذ كنا صغاراً، ونحن نسمع «دائماً» بهذا البلد من باب تميُّزه وتطوُّره. وعندما كبرنا قليلاً، وصِرنا نتلمَّس الكتب بأيدينا، وكلماتها بعقولنا بتنا نتندَّر به كونه بَلَداً مثالياً لا يُجَارَى، فنقول بِحُجَّتنا المعهودة، التي لا تخلو من غَمْزٍ وقِلَّة حيلة، وأيضاً فكاهة: نحن لسنا في سويسرا! والحقيقة أننا فعلاً كذلك.

أمام هذه الهالة الكبيرة، التي كنا (ولم نَزَل) نتخيلها عن ذلك البلد (وهو بالمناسبة حق له لتفرُّده) تغيب عنا الكثير من أسراره. ومن ضمنها نظامه السياسي والاجتماعي، الذي صاغَ شكله الحالي، وجعله يتسيَّد على كل الديمقراطيات الغربية. ذلك النظام السياسي التعددي، الذي يُعتبر خاصاً وفريداً من نوعه، في الآليات والتأسيس.

مؤخراً صَدَرَ عن دار الجمل، كتاب «الديمقراطية السويسرية... الحلول الممكنة للصراعات داخل المجتمعات متعددة الثقافات» لأستاذ العلوم السياسية بجامعة بيرن فولف ليندر، بعد أن تمَّت ترجمته من الإنجليزية، بدعم من وزارة الخارجية السويسرية. وهو في الحقيقة، من أنفس الكتب التي صَدَرَت مؤخراً، كونه غنياً بالمعلومات حاضراً وتاريخاً.

أهمية هذا الكتاب، تنبع من كونه يقرأ معالجة سياسية واجتماعية ودينية وعِرقية في مكان مُحدَّد (وهو سويسرا)، بعد أن عَصَفَت بذلك المكان الانقسامات المذهبية المسيحية، ما بين البروتستانت والكاثوليك، ولاحقاً السياسية في ثلاثينات القرن التاسع عشر، وهي الإشكالات ذاتها التي تعاني منها دول عربية وإسلامية كثيرة حاضراً.

لكن وفي الوقت نفسه، قد لا تعتبر تلك الحالة الديمقراطية قابلة للتصدير، كونها تتمتع بخصوصية قلَّ نظيرها، لكنها قد تصلح إلى التأمل، والنظر إلى قدرة ذلك المجتمع على تسوية مشكلاته في التعدد الثقافي والاندماج وحماية الأقليات وتجاوز الانقسامات الاجتماعية، واستفادت منه مجتمعات أوروبية منقسمة كـ بولندا وصربيا وكرواتيا.

الكتاب مشطور على خمسة محاور رئيسية، تندرج تحتها عشرات العناوين، التي تتحدث عن خبايا ذلك البلد ونظامه السياسي. لكن، جوهر تلك العناوين هو كُنه الديمقراطية السويسرية، القائم على ثلاث مرتكزات: تقاسم السلطة. الفيدرالية. وأخيراً الديمقراطية المباشرة. لذا، فهي ليست ديمقراطية الأكثرية كما في بريطانيا مثلاً.

وبناءً على تلك المرتكزات، فإننا نجد على سبيل المثال، أن في سويسرا ستة وعشرون منطقة، تسمَّى كانتوناً، لكل منها عاصمته، واستقلاله شبه الكامل، وهم يشاركون، (بالإضافة إلى البلديات والأحزاب السياسية الموجودة، ومعهم السويسريون أنفسهم، المتوزعون ما بين ناطقين بالألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانشية) كلهم في السلطة واتخاذ القرارات. وهو ما سمَّاه يورج شتاينر في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب بـ «نظام السلطة المشتتة».

لستُ هنا في وارد التفصيل الدقيق لما جاء في الكتاب ذي الـ 351 صفحة من الحجم الكبير، لكنني مُضطرٌ لأن أقِف على بعض المحطات التي تجعلنا نتنبَّه إلى طبيعة تلك المرتكزات التي ذكرتها. فالمواطن السويسري، لا يشارك «في انتخاب البرلمان والحكومة، بل أيضاً في التصويت والتصديق بشكل خاص على قرارات البرلمان ذات الأهمية الكبرى».

أيضاً، يتحدث الكتاب إلى أنه ومنذ العام 1848 وحتى العام 2006 طُرِحَت استفتاءات وطنية ومبادرات شعبية تصل إلى 3716 واقعة. ما يعني أن كل عام من السنوات الـ 158 قد شهِدَ ما معدل 23.5 استفتاء، تنوَّعت ما بين استفتاءات إجبارية وأخرى اختيارية ومبادرات شعبية، أحدَ عشر مبادرة منها مازالت مُعلَّقة منذ العام 2006.

وقد كانت الموضوعات المُصَوَّت عليها متنوعة. على سبيل المثال كان هناك تصويت شعبي على رفع السرعة القصوى على الطرق السريعة إلى 130 كم/ الساعة، ونظام الأربعين ساعة عمل في الأسبوع، وعلى عقوبة السجن مدى الحياة. وكان هناك تصويت إجباري على تجنيس الأجانب، وعلى الدستور الجديد، واستفتاء آخر على رواتب النواب.

لقد حقق كل ذلك، القدرة السويسرية، على «إدماج مجتمع سياسي واحد من أربع مناطق لغوية مختلفة، بما في داخلها من انقسام ديني بين الكاثوليك والبروتستانت» وجعل من هذه الدولة الصغيرة، أن تقاوم الشمولية الأوروبية، وأن تصمد أمام رياح الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأمام «الصراعات الطبقية التي أتت بها الثورة الصناعية».

عندما نأتي إلى توزيع المسئوليات بين الحكومة المركزية والكانتونات، نرى أن الأمور متقاسمة بشكل دقيق جداً. فهناك سلطات تشريعية حصرية للحكومة المركزية، وهناك تشريعات مركزية تنفذ من خلال الكانتونات، وهناك تشريعات مشتركة بين الجهتين، وهناك تشريعات حصرية للكانتونات كالأمن والكنائس، وسلطات للبلديات.

وعندما نأتي إلى البرلمان السويسري، سنرى أنه يضم غرفتين، هما مجلس النواب الوطني ونواب الكانتونات. الأول يضم مئتي نائب، والثاني يتألف من عضوين من كل كانتون (عشرين كانتوناً) وعضو من كل نصف كانتون (وعددهم ستة). وللعلم، فإن الكانتونات هي التي تحدد طريقة انتخاب نوابها، الذين يُنتخبون (في المعظم) بنظام الأغلبية.

في كل الأحوال، لا نريد الاستطراد أكثر في هذا المجال، لكن ما وددتُ الإشارة إليه هو هذا المقدار من المأسسة الحُكميَّة، التي قد لا تمنحنا النموذج الأصلح كونها لا تتناسب ومجتمعات كثيرة، إن لم تكن محصورة في سويسرا، إلاَّ أنها وفي الوقت نفسه، تعطينا قيمة القانون والحرية لديهم.

نعم، قد يكون ذلك النظام والاستقرار السياسي نتاج صراعات تاريخية، لكن ما يجب أن نعرفه عن هذا البلد، الذي شَهِدَ تلك الصراعات، هو أنه بلد قَبِلَ بالمسلمين كوافدين جدد، منذ أزيد من ألف سنة، ومنحهم حق التغيُّب عن العمل في مناسباتهم الدينية، وطَبَعَ أول ترجمة لاتينية للقرآن الكريم منذ 470 عاماً، كما أشرت إلى ذلك في يوم ما هنا.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4044 - الأربعاء 02 أكتوبر 2013م الموافق 27 ذي القعدة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 7:47 ص

      اين المقتدى

      هناك بشر قدوة وهناك دول قدة ايضاً ولكن أين المقتدي من هذه الدول!!!!

    • زائر 5 | 3:37 ص

      إغراء ومقا ومة الإغراء

      ليس بسر لكن من يقود المجتمع عليه أن يكون نصف إله كما لكن من مقاسات الديمقراطية على الطريقة اليونانية لا على الطريقة الأمريكيه – يعني في اليونان يشترطون أن يكون نظيف وذمته المالية صفرية دائما مصفرة لا تزيد فلس ولا تنقص فلس كما قال الإمام علي عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام. وهنا يمكن القول وكما عاش أهل البحرين أيام مملكة العيونيون. يمكن الرجوع الى التاريخ الأصلي وليس للمزور أو المحرف منه للتأكد!

    • زائر 4 | 3:00 ص

      مساواه ومن إعتلى وتكبر على البشر أين مساواته؟

      يقال بالمقاس والقياس بالمسطرة أما الوزن فبالميزان والأوزان. المساواة في الإسلام كما الساواة في الدمقراطية. مشكلة الفتاوي والرشاوي وسرقة المال العام ليس بسبب وجود قوي أمين على نفسه. هنا القوي الأمين لابد أن يكون صادق مع نفسه ويقول الحق ولو على نفسه. لذا يقال الإعتراف بالذنب فضيلة بينما لا يقال الإعتراف بالجرائم من الفضائل. ويش قال جحا ويش خلوا ويشتركوا لأهل البحرين؟

    • زائر 3 | 1:48 ص

      سلمت أناملك

      سويسرا ودول أوربا حققوا الكثير في الديمقراطية والحريات الشخصية ولا يزال المجتمع يطلب المزيد. دولنا العربية تنتشر بها ثقافة قتل المخالف فكرياً وفعليا. سواء كان الإختلاف مذهبيا او دينياً او حزبي. لم نتربى على ثقافة احترام الغير والديمقراطية هي الحل الوحيد. نبتديء من المنزل والمدرسة وننتهي في البرلمان والحكومات المنتخبة. سلمت أناملك أستاذ محمد على مقالك.

    • زائر 1 | 1:43 ص

      سويسرا.

      سويسرا والديمقراطية تشبه دولة البحرين وخاصة البرلمان صاحب الصيت المعروف ( بحريني أصيل )

اقرأ ايضاً