العدد 4060 - الجمعة 18 أكتوبر 2013م الموافق 13 ذي الحجة 1434هـ

هَرِمْنا مِن هذا الخِطاب

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

عندما كُنت في السنة الأخير في الجامعة (العام 2001) درّسنا أستاذ من دولة عربية مادة «القانون التجاري» وكلما ضرب لنا مثلاً على معاملات تجارية قال: «كيس من الشعير... كيس من القمح... صاعٌ مِن بُرّ... إذا كان إنتاج الطاحونة كذا وكذا» فكنت ألتفت إلى زملائي وأقول لهم: «يا إلهي! نحن في عصر أمازون وإي بي والرجل يتحدث عن الصّاع والطواحين!» وإذا فتحتَ صحيفة عربية اليوم، فستجد كثيراً مِن كُتّابها يستخدمون معاني قديمة شبيهة بأمثلة الأستاذ، لا تمتُّ لثقافة العصر بِصِلة، مثل «إذا ارتفعت الشمس مقدار رُمح» وغيرها من المفاهيم والألفاظ التي تطور الزمن كثيراً فصارت الحاجة إلى استخدامها معدومة.

وإليكم هذا النص الذي ورد في مقال أحدهم في صحيفة خليجية: «وبخاصةٍ أنّهُ قد قُدّر عليَّ الكتابة في صحيفةٍ لم يدع فيها المتألقُ يوميّاً: «فلان الفلاني» موضع بياضٍ إلا وقد دلق فيه قنينة حبرهِ مُطنباً في الثناءِ على معشوقته: «المدينة الفلانية» وليسَ ثمّة تثريب فيما يجترحهُ ذلك أنّه يعيشُ سكْرةَ هيامٍ مِن شأنها - بداهةً - أن تضطرهُ وَلَهاً إلى...»، تساءلتُ بعد قراءة المقال: ما الضرر لو أنه استخدم «إلا وقد خط فيه بقلمه مُبالِغا في الثناء» بدل استخدام كلمات مثل (دلق، قنينة حبر، مطنباً!) وما ضرّه لو استخدم كلمة مَلامة بدل تثريب!

افتح صحيفة باللغة الإنجليزية (ولست هنا في صدد الثناء على الغرب، ولكنني أقارن الحقائق) وحاول أن تجد في صفحات الرأي من يكتب مثل شكسبير أو تشارلز ديكنز أو جورج برنارد شو، ولن تجد! والسبب هو أن كاتب اليوم يتحدث مع أناس مختلفين عن الذين تحدث معهم ديكنز، فلقد تطورت اللغة، أو قُل تغيرت، وتبدلت الأفكار، ولا يصلح أن نجترّ الماضي غصباً حتى نقول للآخرين إننا أهل فصاحة وبلاغة.

ناهيك عن إسهاب كثير من الكُتاب العرب في ذكر الشرح والتفاصيل وإطالة الجُمَل في الوصف وفي استخدام المحسنات البديعية، في محاولات فاشلة لتقليد طه حسين أو ميخائيل نعيمة أو المنفلوطي والرافعي. ولو ظهر أحد أولئك الأدباء اليوم لربما ما قرأ له أحد. افتح كتاباً لميخائيل نعيمة، وحاول أن تكمل عشر صفحات، وأراهنك بأنك ستتعب كثيراً. هذا لا يقلل من إبداعه، ولكن أسلوب عصره كان يتطلب منه رصّ المُرادفات خلف بعضها والإسهاب في السجع والإطناب لإعطاء النص روحاً موسيقية. لكن قارئ اليوم لا يكترث بهذه الأساليب، ويحتاج إلى فهم الجملة باختصار. هذا ليس خطأً، ولكن «شخصية» العصر تفرض نفسها بقوة على الذوق الأدبي، وعلى الكاتب أن يحاول الموازنة بين قراءاته الكلاسيكية، وبين ذهنية القارئ العصرية. كَتَب أديب رسالة لصديقه، وبعد أن انتهى كتب في نهايته: «وددتُ لو كانت رسالتي أقصر، ولكنني لم أجد الوقت الكافي لذلك».

علينا أن نعترف بأن الجيل الجميل الممتد من رفاعة الطهطاوي وحتى نجيب محفوظ قد انتهى. يبقى ما أنتجه ذا قيمة أدبية عالية ومن الضروري قراءته، ولكن لا يمكن أن يكون مقياساً لما نكتب أو نقرأ اليوم.

ذهبتُ لصلاة الجمعة مع ابنيّ سعيد وعمر، اعتلى الإمام المنبر وأخذ يصرخ، على رغم وجود مكبرات الصوت، ويحدثنا عن بر الوالدين. فذكر قصصاً عن رجل كان يحمل أمه على بغلته من مدينة إلى أخرى، وآخر كان لا يشرب من «كوز» الماء قبلها، وآخر كان يرش أرضية غرفتها بالماء حتى تبرد. حاولتُ أن أتخيل كيف سيفكر أطفالي الآن؟ هل سيرشون غرفتي بالماء كل صباح؟ وتساءلتُ: لماذا لم يحدثنا كيف نبر والدينا بمفهوم العصر؟ شعرتُ حينها بأنني سأخرج من المسجد وسأجد بغلتي مربوطة إلى أحد الأعمدة!

ألا يدرك هؤلاء أننا لا نعيش في بساتين بغداد العباسية ولا في أزقة قرطبة الأموية! أرجوكم استفيقوا، فخلف منازلكم ناطحات سحاب، وفوق أسقفكم تحلق الطائرات، وفي هواتفكم تختبئ علوم الإنسانية كلها. أنتم في القرن الحادي والعشرين ولستم في الحادي عشر.

يحتاج الخطاب العربي اليوم إلى إعادة هيكلة من أساساته. قارن بين مسئول عربي وآخر غربي، عندما يقفان لإلقاء كلمة ما، وستجد الأول يبدأ خطابه بديباجة رسمية قاتمة، يستخدم الجمل و «الكليشيهات» نفسها التي تستخدمها وسائل الإعلام، والثاني يبدأ كلمته بطُرفة ثم يقول ما يريد قوله باختصار، وبمباشرة ووضوح.

يقول ويل ديورانت في قصة الفلسفة: «بعض الكتب تُذاق، بعضها تُبلع، وبعضها تُمضغ» ولكن يبدو أن كثيراً من الكتابات العربية اليوم لا يمكن حتى تذوقها. ثم يُكمل بعد أن يتحدث عن آفة الإسراف في استخدام اللغة في العصور القديمة «فالاستعارات والتشبيهات والتوريات التي لا نهاية لها تنصب على أعصابنا كالسياط فتلهبها وترهقها في النهاية».

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 4060 - الجمعة 18 أكتوبر 2013م الموافق 13 ذي الحجة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 5:43 م

      درازي

      وبالشارة للمقارنة بين حقيقة اللغة العربية والانجليزية , فنحن العرب نستطيع فهم قصائد واشعار العصر الجاهلي بينما الانكليز لا يستطيعون فهم نصوص شكسبير , ويبقى ان المبالغة في التفنن والاستعراض في الكتابة ضرب من ضروب التكلف , ولا بأس باستخدام مفردات جزلية واضحة والابتعاد عن المفردات المنفرة او التي يتعسر فهمها ولا تناسب الذوق العام , لان الكاتب او الشاعر لا بد ان يكون ابن بيئته وابن زمانه

    • زائر 11 | 12:22 م

      درازي

      ومحل الشاهد ان علماء اللغة يقولون ان عمر اللغة يكون ثلاثة قرون وتنتهي الا اللغة العربية من اللغات المعمرة لانها حفظت بالقرآن وكذلك اللغة العبرية , فاللغة العبرية ماتت واحيوها بالتورات , وارجوك يا اخي لا تنصدم اذا سمعت البحارة يستعملون الباع كوحدة قياس لعمق البحر والباع يساوي متر ونصف وكذلك يستخدمون مصطلحات توارثت مثل طناب او وتد او مردم اما كلمة تثريب فهي تعني مبالغة في اللوم مع التوبيخ او الزجر وما زال بعض لعامة يقولها : اللهم لا تثريب اشكرك اخي على هذا الموضوع لانه حركني

    • زائر 2 | 1:23 ص

      من البر

      هيكله العقل العربي وليس الخطاب العربي..... هو المطلوب
      احسنت علي المقال......

    • زائر 1 | 9:49 م

      العقل البشرى

      مقال جميل أتمنى أن يتوسع الكاتب بفكرته. العقل البشرى هو العدو الأول لتطوره. كلما أراد أن يتطور فإن الذين لا يفقهون الا أمورا محددة يوقفونه و يرجعونه الى الخلف. أكثر الأمور سببا فى تأخرنا هم الوالدين المدرسة و الجامعات. والدين يجهلان التربية و مدارس تعيش قبل عقود و أساتذة لم يفتحوا كتابا منذ حصولهم على شهادتهم العلمية و بقوا فى إطارهم الفكرى يتصارعون للبقاء دون الإعتراف بتأخرهم عن الركب العالمى. مع الأسف يديرون أمورنا.

اقرأ ايضاً