العدد 4078 - الثلثاء 05 نوفمبر 2013م الموافق 01 محرم 1435هـ

صناعة الوهم

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

صناعة الوهم هي صناعة عربية بامتياز، بعد أن أخفقنا في الصناعات المنتجة، وآخرها صناعة المعلومات، التي أضحت عماد الاقتصادات المتقدمة. وهي صناعة تجد جذورها في العقلية العربية المعتدة بالذات إلى حد الغرور، والمنكرة للنقائص مهما بانت مثالبها، والتي تتظاهر بما هو غير واقعي لإخفاء العيوب، والتغطية على العجز.

على هذه الخلفية التاريخية المتأصلة، عبرت عن ذلك فنون الشعر الذي يعتبر ديوان العرب، فظهر شعر المديح ونقيضه الهجاء. قد يكون العرب من الأمم القليلة المهووسة بالمديح إلى حدّ الفجاجة، بل انه أضحى مسلماً به أن يكون لكل خليفة أو حاكم أو أمير أو حتى محافظ مدينة شاعر بلاط، همّه تأليف وإلقاء الشعر في حضرة ولي النعمة، مسبغاً عليه الصفات الأسطورية.

وفي العصر الحديث فإنه يجري إسباغ الصفة الكلية على الحاكم أو حتى المحافظ، فهو العسكري الفذ، وهو السياسي المحنك، وهو المربّي الأول والمحامي الأول والمهندس الأول إلى آخر المعزوفة «جمعت كل الشمايل». ومع التطور البشري، فإنه إضافةً إلى شاعر البلاط والذي أضحى فلكلوراً من الماضي، فقد تطوّر الأمر إلى أجهزة إعلام وترويج ودعاية للحاكم والنظام الحاكم، يحسدنا عليها جوبلز، مسئول الدعاية النازي.

صور الحاكم ونشاطاته وكذلك كبار المسئولين في أي دول عربية تتصدر نشرات الأخبار في التلفزيون والإذاعة والصحافة ووكالات الأنباء والفضاء الالكتروني، وكأن الحياة ستتوقف لو لم يكن موجوداً. صور الحكام على امتداد الشوارع الرئيسية وحتى الفرعية، وفي جميع المكاتب وواجهات الوزارات والمصالح الحكومية والشركات العامة والخاصة، وعلى طوابع البريد والعملة، ويتم تمجيد الحاكم العربي في النشيد الوطني، الذي يتلى كل يوم في طابور الصباح والاحتفالات العامة وحتى الخاصة، في وقفة انتباه وصرامة مفتعلة. لذا فإن مرض أو توعك الحاكم يحاط بالسرية التامة والتهوين، لأن مصيبة ستحل بالأمة، فما بالك بموته فهي كارثة لا يمكن تصورها.

من هنا تسود حالة من الارتباك لدى الأنظمة العربية في حالة انتقال السلطة حتى في الأنظمة الوراثية المستقرة. وإذا ما أتينا إلى الحكومة أو الدولة، فإنه يجري تصويرها بأنها كلية الجبروت، فإليها الفضل في بقاء المواطن حياً، وبالطبع يعود إليها الفضل في كونه تعلّم أو تطبّب أو حصل على وظيفة أو بيت أو إجازة، وإلا فإن المواطن يتيم بدون الدولة، بل هو عدَمٌ لا يساوي شيئاً. ألم يخاطب الزعيم المقبور شعبه: «من أنتم حتى تتجرأوا عليّ». فالدولة منيعة الجانب كلية الجبروت بجيشها وأمنها ومخابراتها، وهي تعرف دبيب النملة، فلا تراودك أفكار ولو في أحلام اليقظة حتى أن تنتقدها.

إنها صاحية لمؤامرات الداخل والخارج، وتعرف ما يدور بين الزوج وزوجته في فراش النوم. قد تسمح الدولة بأحزاب معارضة مدجّنة، ومنظمات أهلية محتواة، وإعلام الثرثرة، لكنه جزءٌ من حكمة الدولة، لتفريغ طاقات الاحتجاج والاكتشاف لبوادر المتمردين. ألم يخاطب المخلوع مبارك، مبادرة أحزاب وقيادات وطنية مصرية أعلنوا عن نيتهم تشيل مجلس أمة مواز بعد تزوير الانتخابات في 2010 «خليهم يتسلوا»، «شوية عيال».

ويظل الحاكم العربي والدولة العربية، يكابر وتكابر، وهو محاط بجيش من الخبراء الانتهازيين والإعلاميين المطبلين والنخبة الفاسدة، حتى ينفجر الوضع ليكون الرد «مؤامرة مدفوعة من قبل العدو الذي يستهدف نظامنا الوطني الممانع»، وفي بعض الأحيان انه استهداف من قبل بلدان وقوى يزعجها نجاحنا الباهر على كل الصعد. وبالطبع يجري وصم المحتجين بالتآمر والارتهان لقوى خارجية كونهم عملاء ومخربين، ومن دون دين أو ضمير، لماذا؟ لأنهم يطالبون بحقوقهم، وهو شيء مضحك لأن الأنظمة هي المرتهنة للدول الكبرى وتجثم على أراضيها القواعد العسكرية ومياهها الأساطيل الأجنبية، وسياساتها الداخلية والخارجية مرتهنة. وأسواقها مستباحة وثرواتها مرتهنة للشركات الأجنبية، وفوائضها موظفة في سندات الخزينة للدول الكبرى.

الوجه الآخر الذي يجري ترويجه هو منعة الدولة العربية وصمودها ضد كل من تسوّل له نفسه مجرد التحرّش بها. ولذا يجري كل عام في الأعياد الوطنية وما أكثرها استعراض القوات المسلحة بمختلف تشكيلاتها البرية والبحرية والجوية والقوات الخاصة والتدخل السريع والبطيء والأبرار والأحرار، ومختلف الأسلحة الصاروخية والطائرات والسفن والعربات وغيرها، فيما طوابير القوات المسلحة والأمن والمخابرات أحياناً، تسير على وقع الموسيقى العسكرية الحماسية مستعرضة عضلاتها أمام الجميع، لكنا وعلى امتداد أكثر من ستة عقود، أي منذ نيل معظم الدول العربية استقلالها، لم نربح إلا حرباً واحدةً ضد العدو الصهيوني، هي حرب أكتوبر/ تشرين 1973، وهو نصف نصر، وانتهى بهزيمة سياسية. بينما خسرنا جميع الحروب مع «إسرائيل» والغرب، وحتى مع بلدان مجاورة مختلفة اشتبكت معها أنظمتنا العربية مثل الحرب العراقية ضد إيران، والحرب الليبية ضد تشاد.

نعم، نحقّق البطولات في حروبنا مع بعضنا البعض، كما الاجتياح العراقي للكويت، والحرب الحدودية الجزائرية المغربية في تندوف، والقتال المصري السوداني على حلايب، وبالتأكيد انتصارات مذهلة ضد الشعوب المتمردة، حيث لقّناهم دروساً لا ينسونها. هذه البنية العسكرية والأمنية تقوم على تخويف المواطن أولاً أو تضليله، والترويج لقوة كاذبة لأن أعداءنا يعرفون فعلاً هشاشنا. لذا نرى أنه رغم هذه الصورة المضخّمة، سرعة انهيار النظام العربي، وتحلّل بنيته وأحزابه وأنصاره وأجهزته كما حدث في العراق إثر الغزو الأميركي في 2003. وفي لبنان فإن من تصدّى للغزوات الإسرائيلية المتلاحقة هي المقاومة الفلسطينية حتى الثمانينيات، ثم المقاومة الوطنية الإسلامية من حينها وليس الدولة، كما تجلى ذلك في انهيار جماهيرية القذافي، وما يشبه التسليم بالهزيمة للنظام السوداني، إثر خمسة عقود من الحرب في الجنوب.

في طرفةٍ يعرفها الجميع، وهو أن صديقين كان يتمشيان في الشارع في أواخر الليل وهما ثملان، وكان أحدهما يردد «شلمهن شلمهن» أي كيف نجمعهم، فتساءل الآخر: «نلم شنو؟»، فردّ الأول: «شلمهن ملايين الصور المعلقة في كل مكان»!

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 4078 - الثلثاء 05 نوفمبر 2013م الموافق 01 محرم 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 4:52 ص

      للأسف ليس صناعة

      حتى الوهم هذا ليس من صنعهم بل هو مستورد للاستثمار كما يستثمرون الجهل وينصحون باستغلال مختلف الأمراض الاجتماعية يا صديقي إنهم يستحقون الرثاء المقرف.

    • زائر 3 | 12:33 ص

      صناعة الوهم

      سلام عليكم ، أصبر يا دكتور ان الله مع الصابرين وان الله يمهل ولا يهمل سنرى هذه الأنظمة الدكتاتورية ستسقط الواحدة تلوى الاخرى كتساقط الورق في فصل الخريف . ( بحريني أصيل )

    • زائر 4 زائر 3 | 3:40 ص

      مقال روعة

      مقال روعة يحتاج الى وقفة تأمل

اقرأ ايضاً