العدد 4091 - الإثنين 18 نوفمبر 2013م الموافق 14 محرم 1435هـ

امْسَامَحَه

سليم مصطفى بودبوس slim.boudabous [at] alwasatnews.com

-

لا أكاد أبالغ إذا قلت إنّ ألطف وأجمل وأرقّ وأعذب كلمة سمعتها وتعلّمتها من اللهجة البحرينيّة هي «امْسَامَحَه»، ولا أبالغ أيضاً إذا قلت أنّي لم أستغرب هذه الكلمة السحريّة إذ هي تنتشر في المخاطبات اليوميّة والاعتذارات أو الطلب المؤدب كالسحر الجميل؛ فالشيء من مأتاه لا يستغرب، إذ التسامح والتعايش والانفتاح على الآخر المختلف عرقياً وثقافياً ودينياً سمةٌ أصيلةٌ في المجتمع البحريني، لا بحكم موقعه الجغرافي وامتداده التاريخيّ فقط، وإنّما لفهم أصيل لجوهر الإسلام بما هو دين التسامح والإخاء، وبفضل نهج سياسيّ حكيم تجلّى في توجيهات حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى، القائل إنّ «راية البحرين ستبقى عربية مسلمة خفاقة نهجها التسامح والتعايش بين الجميع».

إضافة إلى تشبّع عميق بالقيم الإنسانيّة الكونيّة التي نادت بها ودعت إلى إحيائها منظمة الأمم المتحدة، من ذلك الدعوة إلى الاحتفاء باليوم الدوليّ للتسامح الموافق لـ16 من نوفمبر الماضي؛ فلقد تداعت أغلب وسائل الإعلام في البحرين إلى إحياء هذا اليوم وكأنها تستجيب تلقائياً إلى قيمة أصيلة في المجتمع وجدت لها مناسبةً في أجندة الأيام الدولية حتى تعبّر بشكل أو بآخر عن مكنونٍ في صدور المواطنين.

ويأتي اليوم الدوليّ للتسامح في سياق إحياء الأمم المتحدة لقيم إنسانية تشعر بالحاجة الكونية إليها، ولا يختلف اثنان في الحاجة القصوى للتسامح والسلام، إذ لم تكتفِ الجمعية العامة ببادرتها الأولى حين أعلنت سنة 1993 بأن يكون العام 1995 سنة الأمم المتحدة للتسامح (القرار 48/126)، وإنّما دعت بناءً على مبادرة من المؤتمر العام لليونسكو في 16 نوفمبر 1995، ونظراً إلى الحاجة القصوى، إلى الاحتفال باليوم الدولي للتسامح في 16 من نوفمبر من كل سنة، من خلال القيام بأنشطة ملائمة توجّه نحو كل من المؤسسات التعليمية وعامة الجمهور. واعتمدت الدول الأعضاء إعلان المبادئ المتعلقة بالتسامح.

ولقد حثّ الإسلام على التسامح بمعنى الحِلم والصفح، ودعا إلى عدم التحامل على الآخر وشجّع على نسيان الماضي من خلال البدء بالسلام سواءً اعتذر المخطئ أم لم يعتذر، وهو ما يعزّز الارتباط الوثيق بين التسامح والسلام. لكن ليس من التسامح أن يعتذر المخطئ ولا ينسى! ذلك أنّ التسامح يعني نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة من أجل استمرار الحياة ولا يعني التسامح أيضاً مجرّد التناسي؛ فإذا ما طفت على السطح مجرد أخطاء فرديّة طائشة من هنا أو هناك، عادت الذاكرة إلى الماضي الذي لم تستطع التخلص منه ونسيانه وهدّدت التلاحم في كيان المجتمع وزعزعت استقراره... ذلك هو التناسي وهو لا يخدم البتة قيم التعايش وجوهر التسامح.

ولا مانع من التذكير بالقصّة الشهيرة؛ قصّة الرجل يعلّمنا كيف ننسى، الرجل الذي تألّم من صفعة صديقه في السفر فكتب على الرمل «اليوم أعزّ أصدقائي ضربني على وجهي»، بينما حين أنقذه من الغرق في الرمال المتحركة كتب على الصخر «اليوم أعز أصدقائي أنقذ حياتي»، فإذا ما هبّت ريح ذهب ما كتب على الرمل وبقي ما نحت على الصخر. إنّ التسامح هو أقوى أساس للسلام والمصالحة، وهو لا يكون إلا من ذوي النفوس القوية. نفوس تؤمن بأن الاعتذار قيمة لا تحط من شأن المعتذر بل ترفع من قيمته وتزيد من علوّ شأنه.

إنّ العالم اليوم – أكثر من أيّ وقت مضى – في حاجة إلى جرعات مضاعفة من التسامح، ولا يكون ذلك إلاّ بفضل تضافر جهود الجميع؛ فلقد أكّد السيد بان كي مون في رسالته الأخيرة بمناسبة اليوم الدولي للتسامح أنه «لا توجد حلول فردية لهذه التحديات المتعددة الأوجه والمترابطة، إذ لا يسعنا أن نتقدم إلا بصفتنا مجتمعاً واحداً من الدول والثقافات، منطلقين من التضامن الإنساني، ومسلّمين بأننا شركاء في مصير واحد. ومن هنا يكتسب التسامح أهميته الكبيرة».

لقد بات من الضروريّ على الدول الأعضاء والحكومات تفعيل التزامها بالعمل على النهوض برفاه الإنسان وحريته وتقدّمه في كل مكان، وتشجيع التسامح والاحترام والحوار والتعاون فيما بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب كما جاء في وثيقة نتائج مؤتمر القمّة العالميّ للعام 2005.

ومن أجل تكريس قيم التسامح والتعايش والسلام، لابدّ من تفعيل دور المؤسسات التعليميّة، فالنظام المدرسيّ غير منعزل. إنه مكوّن عضويّ من المجتمع والبلد اللذين يعمل داخلهما، ويتعيّن على تطلّعات أيّ نظام تربويّ وغاياته أن تعكس إلى حدّ بعيد التطلّعات والغايات الأعرض لعموم المجتمع. ومن ثمّة لا ينبغي أن تكون قيم التسامح والمواطنة والتعايش مصفوفةً من المعلومات تنتهي بانتهاء الامتحان، وإنما يُفترض أن تكون حزمةً من الخبرات والكفايات التي يواجه بها المتعلم مواقف الحياة اليومية، ولا يكون ذلك إلا بممارسة هذه القيم في الواقع المدرسيّ منذ أن يدخل المتعلم المدرسة إلى أن يخرج منها، وحيثما تنقّل فيها: في الممرات، في الدرج، في الملعب، في المقصف، في الصف، في قاعة المصادر، في المختبر... لا أن تلقّن تلقيناً نظرياً في الصفوف وتكتب في الدفاتر، أو تعطى مطبوعة في المذكرات فلا يحظى المتعلم حتى بمجرد كتابتها.

أمّا وسائل الإعلام بكل أنواعها فلابدّ أن تخصّص يوميّاً مساحات ثابتة لتكريس قيم التسامح في الأذهان وإقناع الناس بها قولاً وفعلاً، من خلال الحوارات والتحقيقات والمقالات والقصص وغيرها؛ ذلك أن دور وسائل الإعلام عظيم، وهو ما جعل السيد بان كي مون يدعو في رسالته الأخيرة يوم 16 نوفمبر2013 «القادة على الصعيد الوطني وعلى صعيد المجتمعات المحلية - وجميع أولئك الذين يملكون التأثير عن طريق وسائط الإعلام التقليدية والاجتماعية، ولدى أقرانهم - أدعوهم إلى اعتناق التسامح من حيث كونه رابطاً يوحّدنا معاً في رحلتنا المشتركة نحو مستقبل مستدام يسوده السلام».

إنّه لمّا كان التنوّع والاختلاف أمراً ملازماً للوجود الإنساني وسنة كونيّة لا مناص عنها، فإنّه لابدّ من ترسيخ قيم التسامح والتعايش كي تمخر سفينة البشريّة عباب البحر وترسو بسلام على شواطئه الآمنة.

إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"

العدد 4091 - الإثنين 18 نوفمبر 2013م الموافق 14 محرم 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 6:00 ص

      السلام اخي سليم

      مقالااتك جميلة ومقال التسامح اجملها وكم نحن البحرينيين بحاجه الى التسامح اليوم - بارك الله فيك وفي مقالاتك الانسانية والوطنية التي ترفع من شان الانسان والانسان البحريني والبحرين الغالية

    • زائر 7 | 4:03 ص

      ولا ايهمك

      امسامحة عجل

    • زائر 6 | 12:17 ص

      السلام السلام

      ويأتي اليوم الدوليّ للتسامح في سياق إحياء الأمم المتحدة لقيم إنسانية تشعر بالحاجة الكونية إليها، ولا يختلف اثنان في الحاجة القصوى للتسامح والسلام،

    • زائر 4 | 3:27 ص

      امسامح

      مقال طريف وثري شكرا

    • زائر 3 | 1:23 ص

      جميل

      راية البحرين ستبقى عربية مسلمة خفاقة نهجها التسامح والتعايش بين الجميع

    • زائر 2 | 11:33 م

      رائع يا أستاذ

      شكرا على هذه الجولة الرائعة بين المحلي والعالمي دون أن نشعر أنك تعني المحلي أو تقصد العالميّ

اقرأ ايضاً