العدد 4153 - الأحد 19 يناير 2014م الموافق 18 ربيع الاول 1435هـ

المراقبة والتحقير الدائم... ومعرفة مرضيٌّ عنها في العزْل!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

الذين تم اعتقالهم في الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، لم يعرفوا التواصل مع العالم إلا عبر مصادر شحيحة ونادرة: دخول معتقلين جُدد، أو تواطؤ بعض السجّانين بتسريب بعض الأخبار، وفي بعض الأحيان نظير رشوة كبيرة كانت أو صغيرة. المهم أن يكون ذلك بمقابل، أو عبر زيارات يكون فيها الرصْد خانقاً حتى للأنفاس عدا الأخبار، ما يتم تهريبه من رسائل وبإبداع يتصاعد كلما تم اكتشافها والنتائج التي تليها، فكانت نادرة.

تأتي هذه الكتابة لترصد حالاً من منْهجة العزل وتعميقه، بمحاولات مراقبة مُحْكمة تحقق الانعزال عن العالم وحركته في الخارج من ناحية، وتحديد ما يجب أن يعرفه المعزولون - السياسيون خصوصاً - من حركة العالم من ناحية أخرى.

الأمر الأهم من المعرفة تلك، على رغم منْهَجَة حصارها، هو أنها تحرص على أن يلازمها إما تزويرٌ من جهة للواقع في الخارج، كون ما يتم السماح به هو ما تريده السلطة المُعاقِبة، لا ما يحق للمُعاقَبِين معرفته؛ وإما تقديم ما يزوّر ذلك الواقع بالنيابة عبر ما يتم السماح به مما يمثلها في كل توجهاتها وأساليب تعاطيها ومنهاج مراقبتها. كل ذلك يحدث في جزء منه بالوكالة؛ سواءً في الداخل أو الخارج، الأمر سيّان!

تتولى كل ذلك نوعية صحف يتم تمريرها في مراكز الاعتقال. صحف تكمل دور الإهانة في الطعن والتخوين والتشهير والنيْل من معتقدات وانتماءات وميول وأفكار المعتقلين ومن/ ما يرتبط بهم خارج دائرة العزْل. كل ذلك ضمن رزمة وفرْز في التهم وتصنيفها. السجين السياسي لا يُعترف به سجيناً سياسياً هو بين اثنتين: إرهابي أو على ارتباط مع جهات أجنبية معادية. المشكلة أن الجهات الأجنبية المعادية هنا ليست دولة هي العدو الأوحد والمركز للعداوة بحكم الممارسة (إسرائيل)؛ بل هي دولة أوجه ومفاصل العلاقات الدبلوماسية وما يتفرَّع ويمهّد لها قائمة، ومنافذها مُشْرعة من الفُسْتق حتى الطيران! ويمتد ذلك إلى دول الإقليم التي يتم الاستنجاد بها في كل صغيرة وكبيرة!

هذا التوجيه لحق المعرفة والتحجيم له في الوقت نفسه يكمل دور التسقيط والتخوين والتسفيه والتشهير والتندّر والطعن في قيمة ومعتقد وحق ذلك التصنيف من المعتقلين في أن يتم التعامل معه وفق مظلة قانونية تلزم من أقرّها؛ على رغم أنها في غياب يتجاوز حدود الحجز والأسْر لتعمَّ كل مفاصل الحياة خارجه أيضاً وبتفاصيل مرعبة ومُملّة!

***

الأذى النفسي في حال عزلة وتضييق لمجموعات تحاول قراءة البياض. الزمن محتبس. متابعة قناة، أو قراءة صحيفة يعمل عمله في تحريك استفزاز حَبْسَيْن: حبس معاين وملموس يتآكل فيه العمر، وتذوي النفس وإن كانت الروح هي المصدّ الأخير من استهداف تحطيم تلك المجموعات وإرجاعها إلى مستوى العدم، وحبس المراقبة في أن تعرف وتعلم وتدري. تفشل آلة الحجز والحبس في تحقيق ذلك في كثير من الحالات؛ وخصوصاً في صفاقة التمييز وشراسة العنصرية والترصّد والاستهداف. أن تحقق أكثر من موت لموضوع المراقبة والارتهان!

لا ينتهي الشتم والتحقير والأذى النفسي مع انتهاء طريق طويلة من التحقيقات وجلسات التعذيب. كل ذلك بحزْمة جاهزة ومعلَّبة من «القانون».

تُكمل بعض الصحف التي يتم السماح بها في تلك النوعيات من العزل والحجْز، الدورَ، وهذه المرة في صورة أكثر أذى يطول مجموعاً بشرياً لا يمكن إلقاؤه في البحر لأنه ليس فائض حمولة، وليس متطفلاً على المكان أو هبط من كواكب ليست على خريطة الفلك الذي نعرف!

مقابل مصادر الأذى والبذاءة والتحقير والتسقيط والتفنن في الإلغاء، هناك صحف لا تُشترى كما تُشترى قطع الغيار، والذمم لها من تسبيب الصداع ما لا يسرُّ لولا بقية حسبان لعيون ترصد ما يحدث وتسجّل كل انتهاك. عيون هي غالباً خارج القِطْر وخارج دائرة ما يسانده في تجاوزاته وانتهاكاته. مثل تلك الصحف ترى بعين ضميرها ومهنيتها مهما حرّض من حرّض وجيّش من جيّش، مطالباً بإغلاقها وكأنه في صالون للحلاقة أو مركز للياقة البدنية أو مصحة للتخلص من الخَرَف وتبعات ومؤثرات ما بعد سن اليأس، مثل تلك الصحف لا مكان لها في نوعية عزل كتلك. ستفسد المهمة. المطلوب إفساد أطراف المراقبة في العزْل!

في كتابه «‏المراقبة والمعاقبة» يبحث الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، مقارنةً بين السراديب المعتمة لسجون ما قبل الحداثة التي استبدلت بسجون في أبنية حديثة، وبعد حديثه عن «العين التي تخدع» يشير إلى «أن المجتمع الحديث يستخدم هذه الرؤية لتطبيق نظام التحكُّم والسيطرة الخاص بالسلطة والمعرفة»، الخلاصة: قدرة المؤسسة على تعقب ومراقبة الأفراد طوال حياتهم.

لا علاقة بأبْنية حجز أو أخرى تبدو خارج السيطرة. الهيمنة والمراقبة هناك، والأذى والتحقير لابد مع كل ذلك أن يكونا هناك.

هو ذاته السبب الذي يشير إليه فوكو تعميق حال آلية دائمة في الشعور وبالمعاينة أيضاً: «رهاب مستمر وشعور دائم بالرقابة يسري في المجتمع الحديث، بدءاً من السجون شديدة التحصين، وليس انتهاء بالنشاطات اليومية»!

لا تنتهي المراقبة والأذى والتحقير والحرص على مصادرهما في الممارسة والمشاريع المرخص لها خارج حدود العزل والحجْز وممارسة العقاب؛ بموضوع وطرف العقاب وهو تحت فظاظة الآلة المتحكمة بكل التفاصيل. المعرفة في صلب كل ذلك في الداخل: ألاَّ تعرف. وأن تعرف في الوقت نفسه ما يُحقّرك وينال من قيمتك عبر تمرير منافذ للمعرفة والإخبار تكمل دور مؤسسات العقاب، وأحياناً تتجاوزه!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4153 - الأحد 19 يناير 2014م الموافق 18 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً