العدد 4181 - الأحد 16 فبراير 2014م الموافق 16 ربيع الثاني 1435هـ

سورية وعقدة الحلول بين حروب الداخل والخارج (2)

منبر الحرية comments [at] alwasatnews.com

مشروع منبر الحرية

في ظل التهديدات الدولية المدانة والمرفوضة بعمليات عسكرية موضعية أو شاملة، وتعقيد وضع البلد أكثر مما هو عليه الآن، نسأل بشكل عام ولا نخصص في الموضوع السوري فقط، (فالمنطقة برمتها لها نفس التشخيص المرضي، وتعاني من نفس المرض العضال، وإن بدرجات متفاوتة): هل من الممكن بعد كل هذا الدمار والخراب السياسي والاقتصادي والمجتمعي الداخلي، أن نفكّر ونحلم مجدداً بوجود إمكانية ما داخلية لانبثاق الحالة المدنية العربية الحقيقية، النابعة من قناعات الناس، وغير المفروضة بالقوة والضغط عليهم، في واقع الدولة والمؤسسات التي هي ملك كل الناس بكافة أطيافهم وقومياتهم واثنياتهم واختلافاتهم الدينية وغير الدينية.

هل يمكن أن نقول عملياً بأن «العلمنة» أو «المدنية» كفكرة حيادية تجاه الدين والقومية والمذهب، هي ما يجب أن نعمل عليه في ظل حالة الغليان والاستقطاب السياسي والديني، مع بقاء قناعات الناس المتعددة قائمة، تُدار بالاختلاف والحوار العقلاني في فضاء مجتمعي سياسي حقوقي قانوني ودستوري يكفل للجميع إدارة حزبياتهم وخلافاتهم السياسية وغير السياسية سلمياً وحضارياً؟

في الواقع، حتى نضمن تحقيق ذلك، مع أنه لا ضمانات جدية في عملية التغيير المجتمعي العربي الحافلة بالتناقضات الأولية والثانوية، لابد من إبراز أهمية الخطاب الديني العقلاني المعتدل، وعدم التركيز فقط على موضوعة التطرف والإرهاب الإسلامي، دون النظر إلى جوهر ولب الصراع القائم حالياً، المتسبب بالأزمة منذ لحظات تفجرها الأولى، والمنطلق أساساً من حالة ومناخ الفرض والهيمنة والتسلط وليل الاستبداد الطويل.

وهذا الفكر والخطاب الديني المعتدل المطلوب العمل على تحويله لحالة عامة، لايزال للأسف حبيس الفكر والنظريات، أي أنه لايزال غائباً أو مغيّباً في هذه المرحلة من مراحل اجتماعنا الديني العربي والإسلامي عن ساحة الفعل الحضاري. والمضامين السياسية العملية التي يطرحها كثير من شباب اليوم الملتزم دينياً، هي مضامين فكرية برافعات دينية شديدة الاشتعال في الواقع العملي، ولكنها مغرقة في تبعيتها النصوصية المستلبة للذات وإرادة الفعل الذاتي. ولهذا لابد من العمل على تجديد الفكر وعقلنة الخطاب الديني وتوعية فاعليه سياسياً، خصوصاً مع هذا الدخول الواسع للتيارات المتشددة المنحازة لخطابات وأفكار تنظيم «القاعدة» وجماعاتها الأخرى، والإرهاب من بوابة السياسة التي يهدفون من خلالها إلى تشكيل دولة «دينية»، الأمر الذي ضاعف من الخطورة، وزاد من تعقيد المسألة سياسياً وعملانياً.

إنني أعتقد أن قناعات الناس الدينية لا يمكن محوها وإزالتها، وهذا ليس مطلوباً بطبيعة الحال، مع عدم القدرة عليه أساساً، بل لابد من تشذيبها وتهذيبها وتنقيتها ونقدها، وإعادة ضح هواء الحياة المعاصرة العليل بين مختلف جنباتها، كي تكون قادرة على الحضور والتأثير في سلوك الناس المؤمنين والمعتقدين بها.

إن مجتمعاتنا العربية المتدينة عموماً، لن تشارك بقوة وفعالية في عملية التنمية والإنتاج الحقيقي من دون محفزات من داخل بنيتها الفكرية والمفاهيمية التاريخية الحاضرة دائماً في وعيها أو لاوعيها... هذه المحفزات الكامنة في النصوص والبنية الاعتقادية جاءت في عصور تاريخية قديمة، وكثير منها لم يعد صالحاً للحياة والعصر، فلابد من جسر الهوة بين الاعتقاد القديم والسلوك المعاصر من خلال التجديد والنقد والتكيف مع الحال المعاصرة، كي لا يعيش الفرد حالة التناقض بين ما يؤمن ويفكر وبين ما يعمل في حياته.

إن استغلال السلطويين للدين وقيم التدين في عملية الحكم والسلطة، والتغييب الممنهج والمقصود وشبه الكامل لإرادة الناس في المشاركة في اختيار حاكميهم وطبيعة النظام السياسي الذي يؤمنون به لحكمهم ونظم أمورهم المختلفة، أي في ظل غياب للمشاركة الواعية المبنية على رغبة وقناعة ورضا الناس بالنظم السياسية التي تقوم بأمر الحكم وإدارة الشئون العامة، وتدبير مصالح الناس... إن كل ذلك لم يعد مقبولاً في عالم اليوم حيث أن المشاركة والمسئولية في البناء والتطوير السياسي والمجتمعي هي من أهم معايير تحضر وتمدن البلدان والنظم والدول التي جاءت على محمل العقلانية والتنوير القائم على تحرير الإنسان من هيمنة وسطوة الفهم التقليدي للدين، كي ينطلق ليفكر بحرية، في عالم الوعي والمعرفة بلا وصائية ولا أبوية من أحد. بما يعني إعادة الثقة إلى العقل نفسه، ليمارس دوره الحقيقي من جديد، بعد عهود من الاستلاب والإقصاء على مستوى التفكير والإبداع الحر الخلاق.

وعندما نقول بأنه من الممكن تفسير وتأويل نصوص و«معرفيات» الدين الإسلامي كحالة أو كإمكانية عقلانية وتنويرية ومدنية في فكره وسبيله وتوجهه العمومي، القائم على حفظ النفس والإنسان ورعايته كخليفة لله على الأرض، مطلوب منه العمل والإنتاج والإبداع والنهوض والتكامل النفسي والمعرفي والسلوكي، فنحن نستند أساساً على مقولات ورؤى نظرية ومفاهيمية ونصوص دينية نهائية تعتبر أن الحرية هي قيمة القيم، وهي خيار الناس وحقهم الأساسي الجوهري في الاقتناع والرفض في الإيمان والكفر، وهذا من أهم حالات الاختيار الذاتي الفردي: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء»، «متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، إلخ، وبهذا التفسير أو التأويل، يمكن البدء، ليس للاحتيال على قناعات الناس، بل لإفهامها حقائقها الفكرية على ضوء مستجدات وتحولات العصر وتغيرات الحياة.

إن قرننا الحالي هو قرن الوعي والاختيار. قرن الشعوب، وليس قرن الإقصاء والتهميش والأنظمة. هذه الشعوب التي تريد الخلاص والفرار من العقل الأيديولوجي المغلق إلى رحاب السياسة والحرية. وهذا أمر صعب ولا شك، كصعوبة الولادة المتأخرة بمخاضاتها العسيرة واختلاطاتها الخطيرة، فقد يأتي الوليد مشوّهاً، ولكن هي الرغبة والفطرة والوعي الذاتي ومذاق الحرية الذي لا يوصف.

لقد عاشت تلك الشعوب ردحاً طويلاً من الزمان مهملة ومستبعدة ومغيبة عن ساحة الفعل والتأثير، ولم يسمح لها بالمشاركة في صنع القرار الخاص بها، وإدارة مواردها بنفسها، والتحكم بثرواتها الهائلة بلا وصاية مكلفة، وتسليم قيادها لنخب فاشلة عقيمة كانت سبباً في دمارها وخسائرها الهائلة.

وهذه الشعوب الرافضة لأدلجة السياسة، وتديينها بالمعنى الحزبي الضيق، هي نفسها سترسم معالم المراحل المقبلة بتكاليف باهظة للأسف، فالزمان الآن هو زمان الاحترام الكامل للحياة البشرية الفردية إلى حدود غير مسبوقة في التاريخ القديم والمعاصر. وهو أمرٌ متمّم لما وصل إليه الإنسان من تفوق علمي وتقني واقتصادي مالئ للوجود وشاغل للحياة.

إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"

العدد 4181 - الأحد 16 فبراير 2014م الموافق 16 ربيع الثاني 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً