العدد 4399 - الإثنين 22 سبتمبر 2014م الموافق 28 ذي القعدة 1435هـ

هاني فحص... الحالم اليقظ

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

68 عاماً ليست كافية كي يفهم العرب شخصية بوزن العلامة اللبناني السيد هاني فحص (1946– 2014). رحل الرجل بغتةً ومجتمعاتنا البائسة تأكلها الانقسامات ويقودها وعيها الخاطيء للدين إلى اعتماد الخنجر والبندقية وسيلةً لتسوية خلافاتها.

ليست هذه العقود السبعة التي طافت كومضة خاطفة كافيةً لفهم رجل تبنى الحوار المنفتح على المختلف وتقبل الآخر – لا تسامحاً متعالياً- بل إقرار بالتكافؤ الإنساني العادل.

كان لهذا المعمّم الباسم المتعدد المنسجم، رؤيته المتفردة للحياة والكون، وهو المثقف الأنيق الذي اصطبغت لغته القلقة كعقله الشكاك المشحون بالأسئلة الكونية الكبرى. رؤية تحترم قانون التعدد وتدعو إلى صيانة حق الاختلاف كجزء من الحيوية الحضارية، وكان بأسلوبه الساخر ولكن الدقيق، يرى أن الحوار «مثل زراعة النخل، النخلة تحتاج وقتاً طويلاً لتثمر، لكنها راسخة أكثر، أما السياسي فإنه يشتغل على اليومي: بندورة وخيار ورز... مَن يتحمل انتظار ثمار النخل فليفعل، فليحاور...».

سمعته غير مرة يردّد مقولاته في تبجيل حق الاختلاف والتعدد والحوار بطريقته المعروفة عنه في الحديث، كما لو كان يلقي قصيدة عصماء في محفل من الشعراء. وهو حين يتحدّث تغيب المسافات الفاصلة بين الأديب ورجل الدين والسياسي... وأحياناً المتأمل الصوفي.

تزدحم في إهاب الرجل النعوت، فهو شيخ الدين الذي حسم خيار الانتماء إلى الحوزة العلمية في النجف الأشرف وله من العمر 19 عاماً؛ وهو السياسي الذي استهواه بريق الفكر اليساري في انتصاره للمسحوقين وانحيازه للفقراء حتى أفصح بجرأة نادرة في أحد نصوصه: «إن حلم ماركس لا يفترق إلا شكلاً عن حلم أبي ذر». وقد ذهب به حماسه الثوري أبعد من ذلك، حين علّق صورة غيفارا والمطران كابوجي على جدار غرفته عندما أقام في النجف دارساً للعلوم الدينية. وهو القائل: «لبثت أحلم بالعدالة من زمن سبارتاكوس حتى اليوم... وقد أعثر على حلم العدالة لدى غيفارا أو ماركس أو إنجلز، لكني لم أتقبل النظام المعرفي الماركسي وأدواته التحليلية».

في لقاء آخر سمعته يقول في حديث فكري متشعب القضايا: «الدين لا يبني الحضارات لكنه يحمي مكتسباتها»، وفي هذا القول من «آخوندي» ذي لحية بيضاء، جرأةٌ لا تتوفر في العادة عند طلبة المعاهد الدينية التي تمتد عراقتها إلى ضفاف القرن الخامس الهجري.

في هذا الرجل شيء مختلف، أغراني فيه، ما جعلني أستلذ ملاحقة نصوصه المتناثرة بين الصحف والكتب، وأستعذب أحاديثه في إطلالته الحوارية المتلفزة، ولكن لا شيء من كل ذلك أجمل من سماعه المباشر وهو «يُمسرح» أفكاره وآراءه بعذوبة جنوبية مترعة بالحب والعناد. وقد كان لي معه اتفاق يقضي بإجراء حوار صحافي يكتب إجاباته وهو بين حقول الزيتون والزعفران، لكن التقنية لم تكن متلطفة معي ومعه فصار الحوار أمنية وذكرى.

بدءاً من العام 2003 تعدّدت زيارات السيد هاني للبحرين وحل ضيفاً غير عادي، متحدثاً ومحاوراً في منتديات ومؤتمرات فكرية وسياسية ووسائل الإعلام، واحتفت به عددٌ من الجمعيات السياسية تقديراً لدوره السياسي واعترافاً بمكانته كواحد من رموز الاعتدال الإسلامي ومنظّراً بارزاً في مجال مقاربة الإسلام لمواضيع الحداثة.

إحدى اللقاءات التي جرت بينه وبين القوى السياسية، كانت في العام 2003 -على ما أتذكر- بقيادات الصف الأول في جمعية الوفاق»، وكان الجو السياسي العام مشغولاً حدّ الهوس بالجدل المحتدم حول ثنائية المشاركة والمقاطعة في الانتخابات النيابية، وقد شرع فحص في حديث متبسط لا يخلو من طرافة عن تجربته في العمل السياسي في إيران ولبنان، وفي سياق دعوة مهذبة وصريحة للوفاق في حينه إلى المشاركة بالانتخابات النيابية، دعا بشكل أكثر تحديداً إلى الانفتاح على ثراء التجربة الإيرانية في العمل السياسي، والتي اقترب من فيض خبرتها عندما كان مندوباً شخصياً لياسر عرفات -ضمن موقعه التنظيمي في قيادة حركة فتح- إلى القيادة الإيرانية العليا في سنوات الثورة الأولى، مؤكّداً بحكم المعايشة والإقامة في طهران لثلاث سنوات، أن الإيرانيين دائماً يجيدون «مهارة التصعيد في الوقت الذي يمتلكون فيه مفاتيح الحل» في التعامل مع خصومهم كما قال. وقد استعرض بثغر باسم وصراحة مدهشة تجربة فشله عندما ترشح للانتخابات النيابية في العام 1992 عن محافظة النبطية ولم ينجح.

وكان يقول «ليس المطلوب ذمّ الحياة ونقد الدنيا، بل الانخراط فيها وفي شئونها وأحوالها وأهوائها، وهذا ما فعلناه تماما».

وحين يستذكر الأمكنة والناس في كتابه السيري ذي الجزئين: «ماضي لا يمضي» الصادر عن دار المدى، يستعيد ماضيه «الباقي» فيه بكل طرافته وجديته وعذوبته وعذابه. يروي قصة الشاعر العراقي مصطفى جمال الدين (ت 1996) في مجتمع النجف شديد المحافظة، بين أوائل الخمسينيات وأوئل الستينيات، عندما كان الجلوس على الكرسي واستخدام التلفون حراماً وفسقاً؛ وعن تجربته مع بعض الفضلاء، قال جمال الدين: وفّرنا من مدخولنا الضئيل ثمناً لجهاز راديو، كنا نجتمع لنستمع إليه سراً، ثم ما لبث الجهاز أن تعطّل بسبب خراب أصابه، ولم يكن لدينا المال الكافي لإصلاحه، وكنا نصدر صحيفة شهرية نكتبها بخط أيدينا، ونوزعها على بعض مشجعينا من العلماء وتجار النجف المنادين... فكتبنا في أحد الأعداد أن طفلاً من عائلة فقيرة يعاني مرضاً شديداً ويحتاج إلى معونة، وأننا في مجلتنا نتلقى تلك المعونة، وحصلنا على دينارين، فأصلحنا الراديو بدينار واشترينا ورقاً لمجلتنا وشيئاً من التتن بالآخر».

السيد هاني فحص فكرة، والأفكار الحيّة لا تموت، وستبقى أفكاره سنداً حياً لدعاة الأمل يسترشد بها المتحاورون وعشاق العدالة ومحبو الحياة.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 4399 - الإثنين 22 سبتمبر 2014م الموافق 28 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 12:54 ص

      تتمة/


      3. إذا كان السيد هاني نصير للمحرومين فما باله ظل لصيقآ بحزب المستقبل أحد وجوه الفساد والإفساد في بلده. ولماذا أيد "الثورة السورية" ولم نسمع له مثل الموقف من البلد الذي احتفى به: البحرين؟
      طبعا هذا لا ينفي منزلة السيد كمفكر فقد حضرت له ثلاث محاضرات وقرأت كل المقالات والكتب التي وجدتها له ولكنه لن يتحول الى قديس.

    • زائر 5 زائر 4 | 2:16 ص

      شكرا

      شكرا صديقي .. بالطبع هو ليس قديس.. لكنه جميل، اكتب ما اعرفه عنه وما اكثر ما أجهله

    • زائر 6 زائر 4 | 1:07 م

      زائر 4

      حسب وجهة نظره
      ولي شافه
      ما اايدها
      مو معنى هدا انه سيء
      بالعكس
      احترم رايه وموقفه
      ويمكن شاف في حزب المستقبل شي حضرتك وغيرك ماشفته
      وناس شيعه واجد
      وانا منهم ااايده
      لان الخراب بلبنان معروف من من
      والبحرين اعتفست بعد بسبب من
      ومو لانه موقفه مضاد للفورة البحرينيه على قولتك معناه هو مخطئ

    • زائر 3 | 12:53 ص

      ملاحظات

      1. من غرائب العقل العربي تمجيد العقل والرغبة المحمومة في النقد ونقد النقد ولكن في التطبيق يكون رجل ما فوق النقد وكأنه رجل خارق لايرقى إليه الطير ( مع الإقرار بتميزه وتجربته الغنية).
      2. ومن ذلك: إذا كان فحص عليه الرحمة رجل دين فذ فأين التأصيل الشرعي بأدواته الشرعية لما شطح به من أفكار؟
      يتبع...

    • زائر 2 | 12:48 ص

      رحم الله الفقيد

      نتمنى من علماء الشيعه والسنه والمفكرين الدينيين والبراليين ان يساهمو في التقريب بين فآت الشعب وارساء الديمقراطه والمساواة وبث مشآعر المحبه بين الجميع والأبتعاد عن المصالح الشخصيه والفؤيه الضيقه ليثابو عند الله وتذكرهم الأجيال القآدمه بالخير

اقرأ ايضاً