العدد 4428 - الثلثاء 21 أكتوبر 2014م الموافق 27 ذي الحجة 1435هـ

بُنى الاستبداد وسياسة «اخضع ترضع»

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

ثمة إشكاليات مترابطة ومتشابكة رصدها المفكر وعالم النفس المصري المهاجر مصطفى صفوان، واشتغل عليها زمناً طويلاً في كتابه «لماذا العرب ليسوا أحراراً؟ (دار الساقي، 2012)، أبرزها علاقة اللغة بالاستبداد. من جهته استطاع وبتكثيف مترجم الكتاب مصطفى حجازي، التقاط هذه الإشكاليات وتناولها في مقدمة شكلت إضاءات في الكشف عن محاور الكتاب الجوهرية، المتمثلة في عوامل السيطرة الغربية والأسئلة المنسية في فلسفتنا السياسية والتوارث الخلاق والتوارث الآسن في الثقافة والسلطة، وقضايا الشعوب والكُتاب ودور اللغة في تكوين الثقافة وعلاقة الكتابة بالسلطة.

قارب حجازي في مقدمته الأفكار التي أطلقها صفوان بمتغيرات الواقع، وما أحدثه الربيع العربي، منوّهاً إلى «أن تطور الأحداث والوقائع أثبت أن لا خلاص سحرياً ولا تحرر كاملاً ممكناً من مجرد إسقاط فراعنة الاستبداد»، لماذا؟

- لأنه اتضح أن إسقاط الحكام لا يكفي وحده لتغيير المصير وبناء مستقبل جديد، لاسيما ووراء استبداد الحكام بُنى استبداد ترسّخت خلال عقود طويلة في مختلف المجتمعات العربية، وهي التي تسند استبداد الحكام وتعزّزه.

وعليه فالتحرر -برأي المؤلف- واسترداد المكانة ومرجعية مساءلة الشعب باعتباره مصدر السلطات، وكذا بناء المستقبل، بحاجة إلى معركة طويلة النفس تكشف بُنى الاستبداد الراسخة سياسياً وثقافياً واجتماعياً ودينياً، كما تتطلب تجاوز صناعة التغيير السياسي وهدم بُنى الاستبداد وإسقاط حكامه إلى مشروع نهضوي فعلي اقتصادي علمي معرفي اجتماعي ثقافي وسياسي مؤسساتي. وأولى مهمات هدم الاستبداد الخفي والعلني تتمثل في الوعي الذاتي والتوعية العامة بآليات اشتغال مستمرة.

التحرر الفعلي للإنسان، كما يجده المؤلف والمترجم، لا يقتصر على التحرر من بطش قوى الاستبداد الخارجية فقط، بل يمتد إلى تحرره من قوى الاستبداد النفسي في المكبوتات التي تمارس عليه قهرها وتحكمها في سلوكه وكيانه، فعندما يتحرر داخلياً يسترد ذاته الأصيلة التي تمكنه من الانفتاح على الآخر والاعتراف به، ويكون التحرر وقتها منطلقاً وأساساً لكل تحرير سياسي واجتماعي، لِمَ لا والاستبداد لا يستتب ولا تتوطد أركانه إلا بعد تحوّله إلى استبداد ذاتي يمارسه المرء على كيانه من الداخل.

هنا يؤكد حجازي، بأن أمراضنا الاجتماعية التي تتجلّى في سلوكياتنا اليومية واضطراباتنا النفسية، إنّما هي ثمرة تحالف شيطاني بين كبت الطاقات الإنسانية الحية منذ الطفولة وبين القمع السياسي المزمن المؤدي إلى غربة الذات الأصيلة وغربة المواطنة وحقوقها وأدوارها.

الفصحى استبدادية والعامية لغة الشعب

أمّا التحرر الآخر عند صفوان، فهو في استرداد حق القول والكلام والتواصل مع الذات وفي التعبير السياسي والمواطنة المشاركة، في شأن هذا يتطرق لأبرز مقومات بُنى الاستبداد ذات العلاقة باللغة والكتابة، وما يطلق عليه «اللاوعي الثفافي»، مقاربةً بـ»اللاوعي الفردي»، الذي يرسّخ علاقة الاستبداد ما بين الحاكم والشعب، ومنه طرح نظريته حول تأصيل الكتابة باللغات المحكية أو العامية، إذ دعا إلى الدفاع عن «لغة الشعب/العامية» باعتبار أن استعمال الفصحى رقابة على التعبير الشعبي وإنها فوقية بسبب مرجعيتها ونخبوية لاقتصارها على الخاصة ممن يكتبون بها في عزلتهم عن الشعب وقضاياه المعيشية، وكونها لغة النخبة فهي في خدمة السلطة واستبدادها وسيطرتها على الجماهير. كما إنها لغة النصوص الرسمية التي ترسخ هيمنة السلطة، فالدولة لا يمكنها ترك النصوص خارج سيطرتها، لمَ لا والسيطرة على النصوص هي ذاتها سيطرة على النفوس، وبرّر حجازي لصفوان سجالية الكتابة بالعامية قائلاً: «إن غايته نبيلة وليست دعوة للابتذال وتبخيس اللغة الفصحى، وهي تعني رد حق القول إلى الجماهير والكلام بلغتها، وبالتالي استرداد كيانها، لأن تبخيس اللغة يعني تبخيساً للكيان ذاته». بيد إنه أكد أيضاً أن تحقيق التحرير لا يمر بإحلال العامية محل الفصحى، ذلك لأن مشكلتنا تكمن في مكان آخر هو نسبة الأمية العالية بين جماهير الشعب، مطالباً بالضرورة الملحة بإخراج اللغة العربية من جمودها وماضويتها وإدخالها في روح العصر، لتصبح لغة العامة والخاصة على حد سواء، تماماً كما فعلته ولازالت اللغات الأوربية».

في هذا السياق يشير صفوان إلى أن الكتابة مثّلت منذ ظهورها سلطة مطلقة لا تضاهى، وهي بمثابة وسيلة للاستغلال، فكونها أداة إدارية لم يعفها من الارتباط بغايات الوجاهة وترسيخ السلطة حيث كانت مهمة الكتابة توكل للكهنة والكتبة لنشر هيمنة السلطان والإبقاء على الفروق الاجتماعية بين الحاكمين والمحكومين.

ويضيف حجازي بأن علاقة السلطة بالكتابة تغيّرت حالياً من حيث الشكل وبقي الجوهر على حاله، فسلطات الاستبداد لا تكتفي بتسخير رجال الدين وفتاويهم لخدمتها، بل تسيطر على الكتاب وقطاع الثفافة والإعلام. تؤمّم الصحافة وتمارس الرقابة المشدّدة عليها، وتشترى الكتّاب من خلال توظيفهم والسيطرة على اتحاداتهم، ويتحوّل هؤلاء ممن تغدق عليهم الأموال إلى أدواتٍ لتعزيز سلطة الحاكم، ومنهم من يؤدي دور الشرطي الثقافي للنظام، يستوعب ما يفلت من سلطة الأمن والتحكم في السلوك؛ ومنهم من يؤدي دور خبير تسويق النظام ويروّج لإنجازاته العظمي والفذة؛ ومنهم من يؤدّي دور اختصاصي تجميل المتسلط فيرفعه إلى مرتبة العصمة من العيوب والأخطاء. أما المتمردون من الكتّاب فيُحارَبون بلا هوادة، يُحاصَرون ويُهمّّشون، ومن لم يُطوَّع «بالسيف والمنسف»، فقد ينفى أو يسجن أو يهرق دمه أو يتهم بالعمالة والخيانة.

الخضوع لقاء تأمين المنافع

ثمة أمر مهم شرحه الكتاب حول بنية الاستبداد التي ترسّخت منذ قرون طويلة، من تحالف ثلاثي تمثل في التجريم والتحريم والتأثيم، وإخضاع الجماهير بغرس أخلاق الطاعة في النفوس والأذهان. والتجريم هنا يُمارس عبر الأجهزة الأمنية القمعية التي تنشر شبكة سطوتها وسيطرتها على مناحي الحياة، تقمع بلا هوادة وهي الأكثر تمويلاً وتجهيزاً في عالمنا العربي. أمّا التحريم فيتعزّز عبر حكم العصبيات المنتجة للمستبدين، لِمَ لا والعصبية تتأسس على سياسة «اخضع ترضع»، المنطلقة من مرحلة الخضوع لسلطة وعصبية العائلة أو العشيرة أو القبيلة لقاء الحماية وتأمين المنافع، وأي تمرد عليها يعرض صاحبه للحرمان والنبذ باعتباره خروجاً عن الطاعة واعتداءً على كيان العصبية، هذا إذا لم يطرد أو يهدر دمه.

إذاً هو تحالف الاستبداد السياسي والأصوليات الدينية الذي يفرض الانقياد ويؤدي إلى اختزال الحياة في مجرد أمور المعاش وحماية الرأس. ونظراً لديمومة هيمنة ثلاثي التجريم والتحريم والتأثيم، فإن علاقة الاستبداد تنتشر وتتوالد في البيت والمدرسة والمسجد والعمل والنشاط العام، إذ ينتج تعزيزها المتبادل لاوعياً ثقافياً يدعم الاستبداد، ومنه تتحوّل السيطرة الخارجية إلى ضوابط ذاتية حين يتم تمثلها، وهكذا يُعاد إنتاج الاستبداد في الممارسات الاجتماعية والعلائقية على اختلافها.

مفاهيم مستوردة

إشكالية أخرى ذات صلة ناقشها الكتاب، وهي استيراد العالم العربي لمفاهيم الديمقراطية والتمثيل المؤسسي والحريات التي لايزال يرفع شعاراتها دون الاشتغال الكافي على تحديد دلالاتها وأبعادها وحدودها، الأمر الذي جعل الحكّام يغلفون ممارساتهم الاستبدادية ويجملونها من خلال رفع الشعارات ذاتها وتحويلها إلى ممارسات شكلية، بل والسطو على منجزات الثورات بالمساومات، متسائلاً: كيف يصدر الغرب الديمقراطية لمجتمعات ذات نظم اقتصادية ريعية وإقطاعية وطبقية فاقعة تفتقد للفهم الواضح لهذا المصطلح؟ وما هو تعريف الديمقراطية؟ وهل تقوم على الأحزاب؟ وكيف يتم التصويت في الإنتخابات؟ وعلاقة النائب ومن يمثلهم؟ وما معنى التمثيل؟ هل يعبّر عمّا يريدونه أو ما يريد هو أن يقوله؟ كما ناقش الخلط بين الديمقراطية والشورى التي برأيه وصاية على الشعب ولا علاقة لها بالديمقراطية وغيرها من الأسئلة، منوهاً إلى أن فقدان التساؤل والتفكر في هذه المصطلحات والآراء يثبت المغالطات في أذهان الناس ويكرّس الاستبداد.

في كل الأحوال تبقى قضية استخدام اللغة العامية عوضاً عن الفصحى كأداة تواصل وتعبير عن الحالة الجماهيرية واحتياجاتها وارتباط الفصحي بثقافة الاستبداد، مسألةً سجاليةً كونها تتعلق بالهوية والثقافة، ما يدعو إلى إثارة السؤال عمّا إذا كانت اللغة الفصحى حقاً مسئولةً عن ثقافة الاستبداد أم هناك عناصر خفية أشد تأثيراً في الحالة الاستبدادية المستعصية؟

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 4428 - الثلثاء 21 أكتوبر 2014م الموافق 27 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 6:01 ص

      الاستبداد

      تحالف الاستبداد السياسي والأصوليات الدينية: : إن انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم

    • زائر 1 | 4:12 ص

      شكرا

      نحن شعب البحرين لا نركع الى لله ولا راح نخضع ا...................ومستعدين الى السجن والله معنا لانه احنه مظلومون

اقرأ ايضاً