العدد 4488 - السبت 20 ديسمبر 2014م الموافق 28 صفر 1436هـ

موسم التسويات

يوسف مكي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

ما يجري في الجبل يترك تأثيراته المباشرة على السفوح والوديان، لذا ينبغي أن تتوجه الأنظار إلى الاستراتيجيات الأممية الكبرى، وتتعامل مع الصراعات الإقليمية باعتبارها ملحقات لصراعات أكبر.

فجأةً وكما بدا على السطح، من غير مقدمات، شهدت المنطقة والعالم ما يشبه انقلاباً من الحالة الصراعية إلى استعادة روح المبادرات الدبلوماسية في التعامل مع القضايا الساخنة.

فإدارة الرئيس باراك أوباما، وبوساطة عمانية، دخلت في مفاوضات مع طهران، وجرى الحديث عن تقدم كبير في حل أزمة الملف الإيراني. ووافقت أميركا على رفع جزئي للحصار المفروض على إيران. والأمم المتحدة ترعى تحركاً جديداً لحل الأزمة السورية، وتبعث بمندوبها دي ميتسورا للمنطقة، ويطرح الأخير مبادرة لوقف إطلاق النار بين المتصارعين، تبدأ من حلب.

وهناك أحاديث متواترة عن تنسيق عسكري وميداني، أميركي سوري في محاربة الإرهاب. وأن تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتحديد خارطة الأهداف، والحيلولة دون تضارب عمليات القصف الجوي، تجري على قدم وساق بين المؤسسات المعنية في واشنطن ودمشق.

ومن جهة أخرى، تطرح روسيا مبادرة سلمية لحل الأزمة في سورية. وتستقبل قيادتها الشيخ معاذ الخطيب، رئيس الائتلاف السوري السابق. وتجري مشاورات مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم، الذي قدم على رأس وفد رسمي كبير إلى موسكو، لاستكمال المناقشات مع القيادة الروسية حول هذه المبادرة.

وبعودة أخرى إلى الوطن العربي، نلاحظ تقارباً تونسياً جزائرياً، وعودة دبلوماسيين سوريين إلى الكويت، وتنشيطاً لدور القنصلية المصرية في دمشق، وحديثاً عن مبادرة فرنسية جديدة لتسوية المسألة الفلسطينية، وتقارباً في اليمن بين الحوثيين وحزب الإصلاح بعد صراع دموي وقاس طويل بين الطرفين، ذهب ضحيته المئات من القتلى وأضعافهم من الجرحى.

وفي مفاجأةٍ من النوع الثقيل، اتجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا، وعقد معها صفقات تجارية بمليارات الدولارات. واتفق مع رئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان على مد أنبوب غاز يمر بتركيا وصولاً إلى البحر الأسود. وهناك حديثٌ عن مشروع بناء مجمع غاز روسي في تركيا على الحدود اليونانية.

ولتتبع ذلك زيارة أخرى مفاجئة للرئيس الفرنسي أولاند إلى روسيا، والالتقاء بالرئيس الروسي بوتين. وحديث عن مبادرة لتسوية الخلاف الروسي الغربي حول أوكرانيا، ورفع الحصار المفروض على روسيا، وتعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين.

وليس من شك في أن أفضل توصيف لما يجري في هذه المرحلة، على المستوى العربي والدولي، أنه «موسم التسويات». لكن أسئلة ملحة تطرح نفسها بقوة: لماذا في هذه الحقبة بالذات تأتي هذه التحولات؟ وهل بينها ناظم مشترك؟ أم ينبغي النظر إلى كل حالة بشكل مستقل؟

لعل قانون الدورة التاريخية يسعفنا في تقديم جوابٍ عن هذه الأسئلة مجتمعةً. فهذه النظرية تقول بوجود شيء من التبادل الزمني بين الصراع والسلم. وأن بلوغ الصراع ذروته يعني أنه لم يعد محتملاً لمختلف الأطراف استمراره. وأنه لا مناص من تحقيق تسويات بصيغة الصفقات وليس بالصيغ المثلى التي تحقق للمتصارعين جل ما يصبون إليه.

ولأن الكبار وحدهم هم الذين يحدّدون شروط اللعبة وأدواتها، فإن ما يجري في الجبل يترك تأثيراته المباشرة على السفوح والوديان. بمعنى أن توصل الكبار إلى توافقات فيما بينهم لحل المشاكل المستعصية، من شأنه أن يترك إسقاطاته بشكل مباشر، على ما أطلقنا عليه في أحاديث سابقة بالوكلاء الذين يتكفلون بشن حروب الوكالة، نيابةً عن العمالقة صنّاع القرارات الاستراتيجية الأممية. ومن هنا فإن الأنظار ينبغي أن تتوجه إلى الاستراتيجيات الأممية الكبرى، وتتعامل مع الصراعات الإقليمية والمحلية، باعتبارها ملحقات لصراعات أكبر، وأنها صدى لها.

تبرز روسيا مجدّداً للمسرح الدولي، وتوسع من دائرة عمقها الحيوي لتصل إلى جورجيا وأوكرانيا وهنجاريا، وتضم جمهورية القرم إلى أراضيها. وتفرض سطوتها على قرارات مجلس الأمن باستخدام متكرر لحق النقض. وتقف الصين الشعبية إلى جانبها، مخترقةً احتكار الإدارات الأميركية المختلفة لاستخدام هذا الحق، منذ نهاية الحرب الباردة في مطالع التسعينيات حتى انطلاق ما عرف بالربيع العربي. فترد أميركا والغرب بحصارها اقتصادياً، وتوسع من دائرة تحالفاتها، والتفرغ لصراعها الجديد المتجه نحو الشرق صوب روسيا الاتحادية والصين الشيوعية، فتعمل على غلق بعض الملفات الساخنة، كالملف النووي الإيراني.

تتوسع دائرة الإرهاب في المنطقة لتنقض على سورية والعراق وأجزاء من لبنان، فيشعر الجميع بمخاطر ما يجري على الأمن والسلم الدوليين. فيجري تحالف دولي لمواجهة الإرهاب، فيتراجع شعار إسقاط الحكم في سورية بالقوة المسلحة، وتشعر بعض قوى المعارضة السورية بأن لا مناص للخروج من الأزمة سوى الحل السياسي، متماهيةً مع الموقف الروسي. فتستثمر روسيا بوتين المناخات الجديدة لتطرح مشروعاً لتسوية سلمية للأزمة.

من جهة أخرى، تعاني روسيا من وطأة الحصار الاقتصادي المفروض عليها، فتتجه إلى تركيا أردوغان الساخطة من الموقف الأميركي المتراخي تجاه سقوط جماعة الإخوان في مصر، وأيضاً تجاه التنسيق الأميركي مع سورية غير المعلن في الحرب على الإرهاب، فيتحقق اللقاء الروسي التركي. ويجرى الاتفاق على تعاون استراتيجي اقتصادي بين البلدين، يتوقع أن يتجاوز في غضون السنوات الثمان المقبلة الـ200 مليار دولار.

تتابع فرنسا تبنيها أكثر المواقف استقلالاً عن السياسة الأميركية، ضمن الدول الغربية، منذ عهد الرئيس الراحل تشارل ديغول، فتخشى أن يفوتها القطار وتعمل على اللحاق به سريعاً. فيقوم رئيسها بزيارة مفاجئة لروسيا، حيث يلتقي برئيسها، ويجري صفقات استراتيجية معه، تشمل القضايا الاقتصادية والسياسية، وسيكون لها تأثيرها المباشر حتماً على التعاون العسكري بين البلدين. ويترافق ذلك بمبادرة فرنسية لتسوية القضية الفلسطينية.

لقد بلغ الصراع الدولي ذروته، وغدا الكل خاسراً جراء استفحال هذا الصراع، الذي كان من نتائجه تدمير كيانات ومصادرة هويات. فكانت دورة تاريخية أخرى نأمل أن تكون برداً وسلاماً على أمتنا، وأن تكون مدخلاً لتضامن عربي حقيقي، ونهضة عربية شاملة.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "

العدد 4488 - السبت 20 ديسمبر 2014م الموافق 28 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 5:14 ص

      اي نهضة عربية

      اي نهضة عربية تتحدث عنها و بغداد العباسيين و دمشق الأمويين تخت الاحتلال الفارسي

    • زائر 1 | 5:13 ص

      نسيت حرب النفط

      نسيت حرب النفط التي سيكون المتضرر الأكبر منها بعض الدول التي امزجها دائماً في مقالاتك

اقرأ ايضاً