العدد 4513 - الأربعاء 14 يناير 2015م الموافق 23 ربيع الاول 1436هـ

بين الرصاصة والتحريض والبنسلين

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

العالم ملئ بالتناقضات. ملئ بالمضحك والمبكي، كما أنه ملئ بالخير والشر، وإن طغى الشر حضوراً وممارسةً على الخير.

ستجد في العالم اليوم، المدافعين عن حقوق الإنسان، وأولئك الذين لا يهنأ لهم بال، ولا يطيب لهم عيش ما لم يُحرِّضوا على الإنسان، ويفعِّلون كل أدواتهم من أجل استهدافه واحتقاره، وممارسة التمييز ضده، وتجريده من أبسط حقوقه، كي ينعموا هم بكل شيء؛ هذا إذا نالوا الفتات من كل ذلك؛ حتى وإن نالوه، سيظلُّون أدوات في أيدي البعض تستغلّها في تحقيق مآربها، ويظلُّون هم من دون وزن وقيمة عند أولئك.

كما ستجد الإنسان نفسه الذي يصنع الطائرة من دون طيار، والتي تستهدف «الإرهابيين» والتنظيمات المتطرفة، وفي الوقت نفسه، تأخذ في طريقها مئات الضحايا من الذين لا ناقة لهم ولا جمل في كل تلك الصراعات. ستجد الطائرة من دون طيار، التي تقوم بمهمة التقاط صور في مناطق من الصعب على الإنسان بلوغها؛ وإن فعل فبشق الأنفُس، أو الكاميرا التي يمكن تثبيتها على الرسغ، في تناغم وانسجام مع الأداء التفاعلي بين البشر والآلة. آلة القتل تلك، يمكن أن تكون آلة إبداع بامتياز؛ لكن الإنسان بانحرافه ينحاز في أكثر الأوقات إلى ما يعجِّل بالموت؛ وأحياناً موت الأبرياء، في استهدافه الحياة.

قبل ذلك بعشرات العقود، وجدنا الإنسان الذي اخترع الرصاصة، التي بها يمكن أن تُحَرَّر أوطان، وبها أيضاً تُستعمَرُ أوطان، وتُستعبَدُ شعوب، وبالرصاصة نفسها يمكن أن تُنقَذَ حياة، وأخرى تُرسلها إلى الحتف؛ في مقابل الإنسان الذي اكتشف البنسلين، والأمصال المضادَّة للأمراض والأوبئة الفتاكة، والآلات والمعدِّات والاختراعات التي لولاها اليوم لكان إيقاع الحياة بطيئاً حدَّ الاحتضار، ولكان الإنسان في شقاء مضاعف، ولربما تهدد النوع البشري، لو تركت تلك الأمراض والأوبئة من دون وضع حدّ لفتكها.

وهناك من يفجّر طاقاته الخلاقة والخيّرة، وهناك من ينفق الملايين ليفجّر العالم ويقسّمه ويحوّله إلى جحيم عملاق. وفي الاثنين أداء تفاعلي، بين ما يمكن للإنسان أن يحققه من أجل إسعاد البشر، وتحويل الحياة إلى مكان نموذجي يمكّن الإنسان من أداء دوره ورسالته التي جاء إلى العالم من أجلها، وبين ما يمكن أن يقوده إلى الأهداف الشريرة والمدمّرة.

مثل تلك التناقضات التي نحيا تفاصيلها، هي التي تُحدِّد من هو الإنسان، الأخ للبشر جميعهم، وإن لم يلتقِ بهم ومن هو العدو للبشر جميعهم؛ وإن لم تبرز وتتضح ثارات بينه وبينهم؛ فقط هو ثأره من اختلافهم عنه، فيما يريدهم أن يكونوا نسخةً منه، وسمو الذات لديهم، فيما هو في العميق من الانحطاط.

ومن الأداء التفاعلي الأخلاقي، أن يُوقِف ثريٌّ أو جهة أموالاً لتعليم الأطفال في المناطق التي لم تصلها أدنى درجة من درجات التمدُّن، هناك في المجاهل من الأمكنة، في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، إلى الأمكنة التي لا ينقطع فيها الارتحال، أو حتى تلك التي تشكّل اليوم ندوباً بالنسبة إلى بعض المدن التي تزحف على البشر في شراسة لا تغفلها عين أو قلب، مقابل جهات تتفاعل على الضد والنقيض من ذلك، بتسخير وتجنيد أطفال لم ينالوا حظهم من اللهو والحياة اللائقة، ليجدوا أنفسهم يُساقون سوقاً إلى القتل والدمار، وأخذ مجموعات بشرية في الطريق معهم إلى الموت، بعمليات انتحارية تقشعرُّ لها الأبدان، باستغلال تلك البراءة في أحط وأقذر صور الاستغلال.

يوم السبت الماضي (10 يناير/ كانون الثاني 2015)، نشرت وكالات الأنباء خبر طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها، تم اختطافها من عالمها البريء لتكون أداةً للإرهابيين الذين يمعنون اليوم في تدمير طمأنينة العالم، باسم الإسلام وباسم الله على امتداد القارات جميعها.

في الجريمة المذكورة، وبحسب ما أوردته وكالة «أ. ف. ب»، قُتِل 19 شخصاً على الأقل عندما انفجرت عبوة كانت تحملها طفلة في العاشرة من عمرها في سوق مكتظة في مايدوغوري، كبرى مدن شمال شرق نيجيريا. وبإضافة الطفلة التي نفذت العملية الانتحارية وصلت الحصيلة إلى 20 شخصاً، وإصابة 18 بجروح.

الإنسان في بعض الجغرافيات عاجز اليوم عن الاقتراب من تحقيق الأدنى من العالم الذي تعيش فيه بعض الحشرات كالنمل، تلك الكائنات التي نقوم بسحقها وكأنْ لا أثر لوجودها، وهي في انتظام إيقاع حياتها، والتعاون الذي يجعلها قادرةً على الحياة وسط كائنات عملاقة، كل ذلك بسبب حال من الانفصام والتناقض الذي انسجم معهما إنسان اليوم الذي نعنيه، وقدرته اللانهائية على ارتكاب الحماقات التي تتحول إلى فظاعات مع مرور الوقت.

بين الرصاصة والتحريض والبنسلين، يكمن الفارق بين إنسان جاء ليلغي الحياة، وآخر جاء ليعمِّقها ويجعل لها معنى.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4513 - الأربعاء 14 يناير 2015م الموافق 23 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 7:19 ص

      المسامحة ما فهمت بداية الكلام يمكن توضيح

      ستجد في العالم اليوم، المدافعين عن حقوق الإنسان، وأولئك الذين لا يهنأ لهم بال، ولا يطيب لهم عيش ما لم يُحرِّضوا على الإنسان، ويفعِّلون كل أدواتهم من أجل استهدافه واحتقاره، وممارسة التمييز ضده، وتجريده من أبسط حقوقه، كي ينعموا هم بكل شيء؛ هذا إذا نالوا الفتات من كل ذلك؛ حتى وإن نالوه، سيظلُّون أدوات في أيدي البعض تستغلّها في تحقيق مآربها، ويظلُّون هم من دون وزن وقيمة عند أولئك.

اقرأ ايضاً