العدد 4538 - الأحد 08 فبراير 2015م الموافق 18 ربيع الثاني 1436هـ

قصة الفرَّاش والمديرة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الأزمات لا تنتج المآسي الخالصة فقط، بل الفكاهة الممزوجة بالأسى أيضاً. وأحسب أن العراق ليس بعيداً عن ذلك. فقد ذكر المستشار السياسي للأمم المتحدة في العراق غسان سلامة، أنه وبعد أن أصدر الحاكم الأميركي في العراق بول بريمر القرار رقم (1) في 14 أبريل/ نيسان العام 2003 (أي بعد سقوط بغداد بخمسة أيام فقط) والخاص باجتثاث هيكل حزب البعث، تم عزل كل مسئول في الدولة العراقية انتمى لذلك الحزب.

وكان من ضمن مَنْ أقيلوا مسئولو جهاز التعليم كله. يقول سلامة، بأنه وفي إحدى المحافظات العراقية، أقِيلَت مديرة التعليم وأقِيْل نائبها، ثم عُزِلَ جميع مديري المدارس في تلك المحافظة، حتى خَلَت الإدارة من أي عنصر من التكنوقراط يمكنه أن يدير دفة الأمور.

ولم يجد الأميركيون من أحد لاستلام إدارة التعليم وتسييرها من الكفاءات بسبب عزل جميع المتهمين بالبعثية سوى «الفرَّاش» الذي كان يعمل لدى تلك المديرة، وكان شبه أمي! وكان ذلك بمثابة الكارثة، التي أخبرت الأمم المتحدة بها البيت الأبيض حينها دون جدوى. فأهم قطاع في التنشئة الاجتماعية يُعطى لشخص لا يمت له بصلة إطلاقاً!

الحقيقة، أن تخيُّل مثل ذلك الحال يجعل المرء يضحك ولكن بأسى. فالعراق الذي علَّم الإنسانية القراءة والكتابة والقانون تُرِكَ بعد الغزو عرضةً للأمية والجهالة، بناءً على تقديرات خاطئة، أثرت عليه لغاية الساعة.

وإذا ما عَلِمنا أن تلك حالة من بين عشرات الآلاف من الحالات، فإن الأسى يصبح مضاعفاً. فلنا أن نتخيَّل بأن الضربة «البريمرية» الأولى للاجتثاث كانت قد شَمِلَت 142 ألفاً و359 من بينهم أهم الكوادر والكفاءات العراقية التي تعلَّمت في الغرب والشرق. ولو أسقطنا حالات أولئك المُقَالِين من وظائفهم على قطاعات الصناعة والتجارة والمالية والنفط والتخطيط والخدمات وغيرها فإن المشهد يصبح أكثر ظلاماً.

وحين جاء القرار الأسوأ الآخر، بعد ذلك بأقل من شهر، وهو القرار رقم 2، الذي قضى بحل الجيش العراقي، أصبح هناك 350 ألف جندي وضابط مع 175 ألفاً من الأجهزة الأمنية خارج منظومة الدولة، فلم يبقَ شيء في العراق: لا صناعة ولا تجارة ولا نفط ولا تعليم ولا صحة ولا تخطيط ولا خدمات ولا أمن ولا دفاع ولا استخبارات ولا أي شيء. أصبحت الدولة وهمية لا يتحسسها الفرد العراقي، الذي أخذ بالرجوع إلى هوياته الفرعية: عِرق/ طائفة/ عشيرة للاحتماء من المجهول.

علينا أن نتذكر جميعاً ونحن في اليوم رقم 4326 من سقوط بغداد، أن أزيد من 90 في المئة من عمليات التدمير والقتل والفوضى التي شهدها العراق طيلة هذه السنين، كان يمكن ألاّ تقع لو أن الأميركي لم يتصرف بتلك الحماقة. وقد أشار غسان سلامة إلى شيء من ذلك عندما تحدّث بأنه ورغم قرار الحرب الأميركي الخاطئ بالأساس «كانت هناك فرصة لإنقاذ العراق لو أدارت أميركا الأمور ما بعد الحرب بطريقة أخرى» وهذا ما نشير إليه هنا.

لكن، ومن حيث انتهى كلام سلامة، يمكن للعراق اليوم ورغم كل تلك المآسي والأخطاء طيلة عقد من السنين، أن يعيد النظر في كثير من الأمور، ومن ضمنها القراريْن السابقيْن (1 و2) التي قام بهما الأميركي وتحمّل تبعاتهما العراقي. أقول هذا الكلام وأنا أشاهد العراقيين فعلياً وهم يمضون الآن في هذا المسار، مع مناقشة البرلمان العراقي مؤخراً وتصويته على «مشروع قانون المساءلة والعدالة»، والذي يقضي بإعادة النظر في ثقافة الاستبعاد التي طالت الآلاف من المنتمين إلى النظام السابق عن وظائفهم العسكرية والمدنية، كجزء من وثيقة المصالحة والسلم.

وهي خطوةٌ في الاتجاه الصحيح ويجب أن تُشجَّع عليها حكومة العبادي. فالقرارات السابقة دفعت بالعديد ممن شملهم الاجتثاث إلى أن يتحوّّلوا إلى بنادق مستأجرة، وحان الوقت لاسترجاعهم ومنع الباقي من أن يحذوا حذوهم. كما أنه سيعطي الحكومة العراقية «العبَّاديَّة» المزيد من المصداقية أمام شركائها في الوطن والمصير، ويشجعها على بناء ثقة أمتن مع الآخر. وهو ما سيؤثر على أمن العراق بطريقة إيجابية حتماً.

ما يهم هنا هو أن الحكومة العراقية تعمل على تطبيق هذه السياسة بطريقة فاعلة. بمعنى أنها تسير فيها وفي الوقت نفسه تمنع الأطراف المعارضة لها من أن تضع العصي في العجلة، كي لا يتعثر الأمر كما حصل في الأعوام 2008 و2010 و2012، حين جرى مناقشة مسألة الاجتثاث، إلاَّ أن أطرافاً في الدولة العراقية وخارجها حاولت إعاقة ذلك، واستُجِيْبَ لها لدواعٍ غير مفهومة، وهو ما يجب أن يتفاداه العراقيون اليوم.

أيضاً، على الحكومة العراقية ومن أجل تطبيق تلك السياسة بجدية، أن تمنع عمليات الاغتيال الجسدي بحق عراقيين اتُهِموا بأنهم موظفون في النظام السابق، بعضهم أساتذة جامعيون أو مهندسون أو ضباط كبار. وقد سجّل الطب العدلي في العراق أن طيلة السنوات الماضية كانت تجري عمليات اغتيال منظمة ضد أشخاص محدّدين في بغداد وفي القيّارة جنوب الموصل والفلوجة بالأنبار وفي ديالى وبابل والحلة والبصرة.

وعليها بدل ذلك أن تستفيد من هذه الخبرات في ظل ضعف الدولة، وخلوها من الكوادر والكفاءات، كونهم إما أجبِروا على الانتماء للبعث، أو أنهم تجاوزوه اليوم بفعل الزمن. هذا ما نتمناه لهذا البلد العربي والإسلامي العزيز، كي يتخلص من حزنه ومآسيه.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4538 - الأحد 08 فبراير 2015م الموافق 18 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 3:36 ص

      المشكلة الحقيقية

      انك للحين تعيد طرح الفكرة نفسها لالف مرة. البعث هو وراء المآسي من قبل ومن بعد زعيمهم صدام. طريقتهم يا نلعب أو نخرب. لازم تعرف ذلك وكفاية تدوير للفكرة الواحدةمرة بعد مرة.

    • زائر 4 | 2:58 ص

      مايقولون فراش يقولون مراسل

      الله يخليك أنت ماتعرف ان بلادنا تسمي دار المجانين مستشفي الطب النفسي وتكريم للمساجين والموقفين مهما كانت تهمته يسمونهم نزلاء وتختفي اسماء مجرمين يصبحون مجهولين وأمور كثيرة

    • زائر 3 | 1:40 ص

      صدام

      الظاهر يا اخي ان لو صدام كان عايش چان بتكتب فقرة في المقال تطلب فيها ان يرجعونه رئيس او يحطونه مستشار مثلا هههههه

    • زائر 7 زائر 3 | 5:45 ص

      تصحيح للزائر 6

      مقابلة غسان سلامة جرت قبل أقل من شهر والبرلمان العراقي لازال يناقش قانون الاجتثاث والارقام المنشورة جديدة يعني الموضوع ما في تدوير ويتناسب مع التطورات الأخيرة

    • زائر 2 | 12:51 ص

      تساؤل

      هل تعتقد ان هذا الاصرار الامريكي على حل البعث والجيش العراقي ليس له دوافع صهيونية

    • زائر 1 | 10:48 م

      ياليتني لم اقرأ هذا المقال

      فاجعة كبيرة نرى نتائجها الان لا حول ولا قوة الا بالله ،،،، بالتأكيد الأمريكان لا يهمهم بالإمكان توثيق ذلك و تقديم الدولة المسؤلة الى محكمة الجنايات الدولية ان مثل ذلك أدى الى سيادة الأحزاب الدينية القرو وسطية التى احترفت القتل والحرق في كل مكان باسم الدين

اقرأ ايضاً