العدد 4555 - الأربعاء 25 فبراير 2015م الموافق 06 جمادى الأولى 1436هـ

المآزق من وراء تجنُّب المراجعة والمساءلة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

واحد من الإشكالات والمآزق التي يعاني منها العرب والمسلمون اليوم، هو تجنُّبهم مساءلة واستجواب كل هذا التراث الضخم، الذي تحوَّل في مجمله إلى اعتقاد، وفي أمكنة إلى عقيدة، في صور وممارسات شاخصة وماثلة. أخذ ذلك التراث على عِلاته، واعتباره هو النسخة الأصليَّة من التشريع الذي جاءت به رسالة الإسلام. في المحصلة النهائية، اعتباره عن وعي أو من دون وعي، هو الدِّين.

واحد من أسباب انهيار المنظومة الوجودية للمسلمين اليوم، هو استهدافهم للذين يحاولون الاقتراب من تلك المساحة. الدنوَّ مما يشبه «التابو».

استبعاد المراجعة وتجريمها، ووصم الذين يتبنَّونها بالزندقة والمروق عن الدِّين في حالات ماثلة، هو الذي يصنع اليوم مجموعة أديان في الدِّين الواحد. يصنع لنا أكثر من إسلام في البلد الواحد، إن لم يكن في البيت الواحد!

استبعاد المراجعة وتجنُّبها، هو الذي يتيح الفضاء الواسع للذين يُسقطون فهمهم على الدِّين، وجرّه إلى مساحات مُعتمة ودموية، ولا نحتاج إلى استحضار أو استدعاء الشواهد في ما يفعله «داعش»، وبقية التنظيمات الإرهابية. نُسَخ «الإسلام الدموي والتكفيري» التي بين أيدينا اليوم لم تأتِ بالمصادفة. ولم تجد لها تلك الأرضية لولا استبعاد ونفي تلك المراجعة، وترك أمر التصدِّي للدِّين، وتفسير مضامينه - بحسب التجيير والحاجة - للذين اقتنعوا بأن لديهم «أمّ الكتاب»، وعلى العالم أن يؤمن باعتقادهم ذاك، وأنهم المُخوَّلون بتقديمه إلى العالمين.

أول ما يلاحظه ويستقبله «الآخر» في محاولة فهمه الدِّين الذي يقدَّم إلى العالم اليوم، هو أنه يتحرك من دون فضاء. الدِّين في مجمله فضاء للأخلاق والمعاملات والعلاقات، ليس مع السماء فحسب، بل الأوْلى بها مع الأرض، والفهم والنظر. كل ذلك لا يُرى، أو يكاد لا يُرى.

لدينا وسط كل ذلك، انحسار مساحة التأمُّل من الدِّين الذي نشهد، ويُقدَّم إلينا وإلى العالم، في ما نشهد ونعاين، وفي ما هو قائم. ما هو سائد يظل في حدود «التقرير»، «الفرْض»، الاتباع، دون مساءلة، وحتى دون استفهام. في الاستفهام تكمن تفاصيل الشياطين التي ستطلع لك. هكذا يروِّجون، وهكذا يريدون أن ينأوا بالناس عن «الشياطين الافتراضيين»، فيما هي مواجهة مع أساتذة الأبالسة والشياطين!

هل عليَّ أن أستدرك هنا؟ اختيار مفردة «انحسار»، غير دقيق فيما يتعلَّق بالفضاء والمدى المتاح للتأمل. لا شيء من ذلك يبدو شاخصاً. في نسخ متعددة من الدِّين الذي يُقدَّم إلى العالم، وكل نسخة تدَّعي كماليتها، وتدَّعي تحصُّلها على صك النجاة من بين «سبعين فرقة في النار». ما يحدث لا علاقة له بالتأمل. لسبب بسيط، هو أن الانشغال، وضمن تلك المساحة، مُنصبٌّ ومُركَّز على الطرق والأساليب التي يتم بها ومن خلالها تقرير وإخراج المختلِف/ المخالف، من الدِّين، كضمان لدوران عجلة التكفير وإهدار الدم الذي بات لعبةً مفضَّلةً لكثيرٍ ممن لديهم كل صكوك الخلاص من جهة، و»تكفير» العالم، من جهة أخرى، ومن دون «تفكير»!

الإشكالات تبدأ من الإنسان أولاً؛ لأنه صانع ظروفها وأسباب بروزها وقيامها. الإنسان الذي لا يريد أن يحيط بإمكاناته، وقدرته على الفعل الخلاق من خلال إعمال العقل، وما يمكن أن ينتج عنه.

علينا ألاَّ نهرب أيضاً من واحد من أكبر الإشكالات التي باتت جزءاً من ثقافة وذهنية وتعاطي الإنسان العربي والمسلم مع الواقع من حوله (إدارة الظهر للمشكلات)، بحسب توصيف أدونيس في تناوله لـ «الذات والآخر». ذلك الإجراء المليء بتغييب الدور، والحيلولة دون إعمال الأدوات لتجاوز تلك المشكلات، لا يمكن أن تنفصل «إدارة الظهر للمشكلات» بأي حال من الأحوال عن الهروب وتجنُّب المراجعة التي جاءت في بداية هذه الكتابة. لأن في الهروب وتجنُّب المراجعة، تعطيلاً للأدوات الكبرى، وأوَّلها العقل، بتغييب الدور الذي يمكن أن يقوم به، والأثر الذي يمكن أن تُحدثه تلك المراجعة في تغيير صورة الواقع ومضمونه.

وللمذاهب في ما تُمارس من تحشيد واقتتال وإقصاء، مآزق أخرى، ترتبط بما تمَّتْ الإشارة إليه. الانغلاق والتسليم بما تحقّق وتمَّ الاجتهاد فيه وحوله. محاولة الاقتراب من الفهم المتناسب مع طبيعة العصر وحاجاته وضروراته، مسألة لن تُعتبر شجاعةً أو تهوُّراً، بل ستكون بمثابة انتحار علني؛ قياساً بواقع الممارسات اليوم.

معظم المذاهب الإسلامية لا تملك الشجاعة. لا تملكها تمثيلاً في الذين يتحدَّثون باسمها، ويدعون إليها، وتبدو هشاشة الذين يتصدَّون للدفاع عنها، أمام الأسئلة الكبرى المتعلِّقة بالعقل والحريات، والدولة الحديثة، وحرية المرأة، وقضايا التمييز، والغياب الشاخص لأكثر من مليار ونصف المليار مسلم في الحركية التي يموج بها العالم، وغيرها من المسائل والقضايا.

حتى الثوابت في الدِّين، لم تعد كما هي بهذا الاختطاف. صارت المستحبَّات والمُبتدَعات من الثوابت والضرورات لدى بعضهم. لن يقولوا ذلك علناً وبالنص، لكن تكفي الممارسة على الأرض لتبرهن على تحويل الممارسات والطقوس إلى دين، وبالتالي يصبح كل ذلك جزءاً من الثوابت والضرورات.

الانشغال بكل ذلك لا يمكن أن يعبِّر عن أي نوع من أنواع الحركية. هذه حركية في حدود الاستبداد والهيمنة على الحياة. وهي العنوان الأكبر. وثمة عناوين تندرج تحتهما تستهدف العقل في الدرجة الأولى، وبالضرورة الإنسان المنقوص دوره، والخاضع إلى تقسيمات غير منصوص عليها؛ ولكنها تُمارس وكأنها جزءٌ لا يتجزَّأ من الدِّين.

مع استمرار تجنُّب المراجعة والمساءلة على مستويات عديدة؛ يصبح الحديث عن حركية، أو أمَّة/ مجتمع قابل للحياة، مسألة لا تحتاج إلى نظر أمام موت شاخص تؤكِّده الممارسة.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4555 - الأربعاء 25 فبراير 2015م الموافق 06 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:50 ص

      الدين والحداثة

      الدين أتى من أجل تطوير حياة الإنسان وسعادته وليس من أجل استغلاله واستعباده وتدمير حياته وتحويله إلى أداة قتل وتدمير ...تراثنا الإسلامي تم حشوه وتسيسه بالمفاهيم المتناقضة والخاطئة عبر تاريخ تراكمه وتدوينه مما يتطلب مراجعة شاملة لكل نصوصه وفقاً للحداثة ومتطلبات العصر

    • زائر 1 | 12:52 ص

      داعش و ولاية الفقيه

      داعش و ولاية فقيه وجهان لعملة واحدة فكلاهما يؤمن باحتكار الحق و يسفه و يكفر الآخر

اقرأ ايضاً