العدد 4567 - الإثنين 09 مارس 2015م الموافق 18 جمادى الأولى 1436هـ

فن إدارة الأزمات والصراعات

عصمت الموسوي

كاتبة بحرينية

تنهض سياسة الدولة العربية في تعاطيها مع الخصوم والمعارضين على مبدأ أن هذا المعارض إما أن يتوب باعتباره كافراً بنعمة ولي أمره ويعود إلى حضنها ويتماهى تماماً مع فكرها ورأيها في السراء والضراء ويلغي شخصيته ويتخلى عن استقلاله الذاتي بالمطلق، أو أن تحل عليه اللعنات ويهلك في سجنه أو منفاه.

وتتفاوت هذه السياسة من بلد عربي إلى آخر، تبعاً لسقوف المسموح به، وهو سقف شديد الانخفاض بطبيعة الحال في كل الأرض العربية، والواقع أن الأحزاب والتنظيمات السياسية العربية لا تختلف كثيراً في لا ديمقراطيتها عن الأنظمة الشمولية المطلقة إلا في مدى القدرة فحسب، إذ تظلّ للحكومات اليد الطولى والسطوة الأكبر باعتبارها مالكة الأرزاق وموزّعة الأنصاب وواهبة الموت والحياة.

عندما اندلعت أحداث الربيع العربي حققت الدول العربية وعلى رأسها مصر حسني مبارك، أكبر إخفاق في التعامل السياسي مع شعوبها التي سرعان ما تعاطت معها كأعداء وخصوم وخونة، بيد أنها أخفقت أيضاً في النهج الجدير بالاتباع في التعاطي مع الأعداء والخصوم، حيث البدء بالسياسة والكياسة واللين والمسايرة والدبلوماسية والتحاور والتفاوض والمناورة. ثم إذا استنفدت كل تلك الوسائل تلجأ إلى الحرب، وهذه أبسط أبجديات علم السياسة التي يتلقاها الطالب في السنة الأولى وهو على مقاعد الدراسة. هي «ركبت أعلى ما في خيلها» منذ اليوم الأول، إذ قتل عشرات الشباب في الساعات الأولى لثورة 25 يناير على سبيل المثال لا الحصر، ونسيت أنه إذا كان اليوم الأول يبدأ بالقتل والرصاص فكيف يكون الأمر في اليوم التالي؟ أين هي استراتيجيات فنون الصراع والدبلوماسية والتفاوض وفن إدارة الدول في الأزمات؟

أما الإخفاق الثاني فهو التعاطي مع من اعتبرتهم خصوماً وأعداءً كما اعتادت أن تفعل دائماً عبر تجريدهم من حقوقهم الانسانية والقضاء عليهم سريعاً وسحقهم وإرسالهم إلى المقابر أو سجنهم وقطع حبال تأثيرهم وسطوتهم أو قطع أرزاقهم وتخوينهم وتهميشهم ووقف أنشطتهم ومنع تداولهم بين الناس. الميت منهم يجب أن يتلاشى ذكره، والحيّ منهم يجب أن يكون ممسوخ الصورة ومشوّهاً أو كالميت، لا اسم له ولا صوت ولا صورة ولا حس ولا منبر يعبّر منه ولا وظيفة يعتاش منها. لم تبقِ السلطة العربية على أية علاقة مع خصومها في زمن الربيع العربي... حتى شعرة معاوية قطعتها.

والمفارقة أن الدولة العربية العصية على التغيير نسيت أن الزمن تغيّر، وأن حال الدنيا لم يكن كما كان في السابق، فلقد احتضن الإعلام البديل وفضاء الانترنت الواسع وتعدّد المحطات الإعلامية وسهولة إنشائها وسرعة انتشارها، احتضن كل من أرادت إسكاته وإلغاء وجوده وإخفاء دوره وقدرته وتأثيره.

أقرأ أحياناً ردود الخصوم السياسيين على حسابات «تويتر» و»الفيسبوك» في دول الربيع العربي بين أنصار هذا الفريق أو ذاك فأجد العجب العجاب، أنت لسه موجود؟ يا رجل اختفي وفارقنا بوجهك، عمّن تتحدث؟ من أنت؟ وماذا تمثل؟ ردود تمثل قمة الاستخفاف بالإنسان، فهو إما أن يمثّل جهة رسمية وإلا فهو غير موجود، وتنعدم حتى حقوقه الإنسانية البسيطة ولا لزوم له على وجه الأرض.

اعتقدت الدولة العربية أن إخفاء خصومها من منابرها وإعلامها وأجهزتها سيزيلهم من على وجه الأرض، وهو اختبار آخر تسقط فيه، حيث صنّفت «الايكونومست» الإعلام العربي بعد الربيع العربي وهو الانعكاس المباشر لصورتها والخاضع لسياساتها وسلطتها بالمطلق، بالإعلام المنتكس المنحدر الهابط إلى قعر القاع. ووصفته بأنه «منحاز وغير موضوعي ومغيّب للرأي الآخر تماماً، وقد تردى إلى درجات غير مسبوقة بعد الربيع العربي، وأن الأمل هو في شعاع الانترنت».

إن سؤال: من أنت ومن تمثل؟ ينم عن حمق وغباء بلا حدود في زمننا هذا، فالحكمة تقتضي أن من لم تستطع أن تغلبه وتقضي عليه فلا مفر من مسايرته ومفاوضته واللعب معه. درس آخر بديهي وقديم في فن إدارة الحروب والصراعات قاله الفيلسوف الصيني لا تسو في القرن السادس قبل الميلاد، بيد أنه غاب عن الأذهان واستعيض عنه بسياسة تكسير الرأس والانتقام واستشارة تجار الحروب والسلاح لتطويل أمد الصراع ومواصلة العناد والمكابرة وتعميق الأزمات وتراكم الخسائر.

إقرأ أيضا لـ "عصمت الموسوي"

العدد 4567 - الإثنين 09 مارس 2015م الموافق 18 جمادى الأولى 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 6 | 11:57 م

      اجد ان الغرب كما قلت يساير ويلاعب شعوبه ويعطيه حرية وهمية

      لا غير

    • زائر 5 | 11:56 م

      للاسف لم ينشر ردي

      ولكن باختصار استاذة..هل تجدين الشعوب الغربية لديهم حريات حقيقة ام وهمية؟ وهل هناك فارق شاسع بيننا وبينهم

    • زائر 4 | 1:25 ص

      وين الحل ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

      اكثر من نص الشعب بالسجون وزنازينهم تأن من المرض واللاكتئاب والنفسيه التعيسه وانتشار الاوبئه بين المعتقلين والحشرات و..................... اين فن حل السجون يا السيده ؟؟

    • زائر 3 | 12:31 ص

      ادارة الازمات

      فن ادارة الازمات يحتاج الى مراكز ابحاث ودراسات ،ولكن العرب اختصروا ذلك وتجاوزوه بحل اوحد وهو "الحل الامني "الباطش

    • زائر 2 | 11:59 م

      اسلوبك مشوق

      وراقي

    • زائر 1 | 11:58 م

      يسعد صباحك على التنوير الفكري

      سؤال اتمنى يطرح في احد مقالاتك..دائما لما تناقش الا حولك حول الفرق بينا كحكومات عربية وبين حكوماات غربية وشعوبنا وشعوب الغرب..يقول لك عندهم حرية عندهم ديمقراطية ...حققوا وقدروا ولا يمكن تقدر حكوماتهم تتسلط عليهم....بس انا ما اشوف هالشي...الا اشوفه ان يمكن شعوبهم تكون مستغفلة اكثر منا ..احسهم يعيشون وهم الحرية والديمقراطية...يعيشون انحدار على جميع المستويات الا العلم والتكنولوجيا وهدا محصور بالشركات العملاقة واصحاب الاموال....اتمنى توضيح الفكرة وملابساتها يا استاذتنا ....

اقرأ ايضاً