العدد 4615 - الأحد 26 أبريل 2015م الموافق 07 رجب 1436هـ

اتصل بي إن كان بمقدورك!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

هل تعرفون نيكولاس مادورو؟ بالتأكيد الجميع يعرفه، فهو رئيس جمهورية فنزويلا البوليفارية الذي خلف هيوغو تشافيز (1954– 2013) بعد فوزه في انتخابات 14 من أبريل/ نيسان 2013. الشيء الملفت، أن هذا الرئيس الذي بدأ حياته سائقاً للحافلات في مترو كاراكاس، مايزال يمارس هذه المهنة في أحيان كثيرة رغم كونه رئيساً للجمهورية!

لا تستغربوا ذلك وتظنوا أن ما عندكم من زعامات هو نهاية النماذج في هذا العالم، فهناك مَنْ هو أفضل منهم في طريقة تعامله مع السلطة وإغراءاتها الرهيبة، من جاه ومال وقوة. فمادورو جاء من رحم النقابات قبل أربعين عاماً، لذلك فهو يعرف ماذا تعني كلمة «التعب» و«العَرَق»، وماذا يعني الرزق ولقمة العيش الكريمة.

قبل أيام، وعندما كان نيكولاس مادورو رئيس جمهورية فنزويلا البوليفارية يقود حافلة وسط حشد في ولاية أراجوا بوسط فنزويلا، «ألقى شخص ما من بين الحشد ثمرة المانجو عليه». لا أدري بالتحديد أين وقعت تلك الثمرة من جسمه، هل على رأسه أو في حضنه، لكن الأكيد أنها وقعت، ولفتت انتباهه جيداً، لأنها لم تكن كغيرها من ثمار المانجو! كيف؟

ظهر مادورو في التلفزيون الفنزويلي عارضاً الثمرة، حيث تبيَّن أن إحدى مواطنات فنزويلا وتُدعَى مارليني أوليفو هي مَنْ رمتها عليه، حيث مَهَرت اسمها على الثمرة، الذي قُرِئ بصعوبة كونه كتب على عجل، واضعةً رقم هاتفها إلى جانب الاسم، مع عبارة قصيرة تقول فيها: «اتصل بي إنْ كان بمقدورك»، والكلام موجَّه للرئيس مادورو.

تبسَّم الرئيس قائلاً بأن أول شيء يود أن يقوله هو أنه يقبل الهدية (ثمرة المانجو)، حيث ستكون من ضمن أكله لاحقاً، ثم شرح وبأدب للفنزويليين قائلاً بأن مشكلة مواطنته مارليني أنها تعاني من أزمة في السكن دون أن يزيد على ذلك حرفاً، حرصاً منه على أسرار حياتها الخاصة. قال لها الرئيس: «وافقت على منحك سكناً»، منهياً بذلك معاناتها.

الحقيقة أن هذه الحادثة قد يعتبرها البعض «دعاية فاشلة» في زمن الإحباطات التي يواجهها الحكام الفاشلون، لكنني شخصياً مقتنع أنها لو حصلت لزعيم مُنعَّم بمليارات الدولارات، والذي يلجأ بين الفينة والأخرى لمثل هذه الأشياء (وغيرها من الدعايات) كي يُنسِي شعبه ما لديه من ثروات أرضهم التي نهبها لصدَّقت أنها «دعاية فاشلة».

أما أنها وقعت لهذا الرئيس المنتَخَب انتخاباً حقيقياً وسائق الحافلات سابقاً ولاحقاً، والذي لا يلبس أكثر مما يلبسه الفنزويليون من أحذية وألبسة الأعمال المجهدة والموحَّدة فلا أظن أنه بحاجة كثيراً لأن يفعل ذلك، كون ظاهره وباطنه متشابهين بالمقدار الذي هو واضحٌ لشعبه، رغم أنه لا يحكم بلداً كمدينة أفلاطون في العدالة والنقاء والشفافية.

نعم، إنني أصدّقه لأنني أصدق مليونَيْ فنزويلي هم الذين استطاعوا أن يُلقوا النظرة الأخيرة على جثمان الرئيس الراحل هوغو تشافيز، وتسعة ملايين ونصف المليون من الفنزويليين ممن أبَّنوه، وهم الذين صوَّتوا لنيكولاس مادورو كي يصبح رئيساً لجمهورية فنزويلا البوليفارية قبل عامين، وصوّتوا لسياسة دعم الفقراء طيلة ستة عشر عاماً خلت، والتي واجهت أنواعاً كثيرة من الحركات المُأمركة البرتقالية منها والمخملية.

هذا الرجل ليس ديماغوجياً ولا حالماً، لكنه يتمتّع بقدر معقول من المسئولية الأخلاقية. هو ليس ملاكاً ولا قديساً لكنه يفعل أشياء حسنة كثيرة، أهمها أن يُزيل ما أمكن الفارق بينه وبين مواطنيه. يُحسِّسهم بالأفعال أنه ينتمي إليهم ويسمع إليهم وينظر إليهم دون الحاجة إلى تثوير عرقي أو طائفي/ مذهبي كما يفعل البعض لكسب الدهماء.

كان يمكنه (وقبله تشافيز) ومن أجل كسب الناس، أن يُحوّلوا معركتهم مع الولايات المتحدة الأميركية على أقل تقدير إلى معركة دينية، باتهام المساعي الأميركية داخل فنزويلا على أنها حملات تبشير بروتستانتية ضد الأمة الفنزويلية الكاثوليكية العظيمة، لكنهم لم يفعلوا، رغم أنها دعاية سهلة ومدفوعة الأجر ولا تحتاج إلى عناء.

وهو درس للعديد من الحكام ممن يُوظفون الحرب المذهبية لكسب شرعية غائبة عنهم، فيُلهون شعوبهم في معارك «مقدسة» وهمية ويستمروا هم في النهب وخداع الناس. وهو من أقذر أنواع الاستغلال والتوظيف لأنه خداع سياسي وديني باسم السماء.

خلاصة القول من حادثة مادورو وسياسته تجاه مواطنيه أن الشعوب لا تريد من حكّامها أن يأتوا لها بلبن العصفور، ولا يطلبوا منها أعمالاً دونها شيب الغراب، ولا أن ينتفوا لها الوبر عن قشرة البيض، بل تكفيها رعاية الحقوق وإسماعهم الكلمة الطيبة والرحمة بهم والمداراة لهم. فالكلام الليِّن أسرع إلى قلوب الناس من النار إلى اليَرَاع كما أثبتت التجربة على مر التاريخ.

كم هي الفرحة التي تغمر الفقير، حين يجد حاكمه ينزل إليه، يُعزِّيه في ترحه، ويهنئه في فرحه، يأكل كما يأكل ويشرب كما يشرب، ويتخفّف ما أمكن من كل هذا الملبوس المجلَّل، ويترك القصور التي لا يُرى منها سوى علو أسوارها، ولا ينتهي مدى أرضها، ليسكن في المقدار الذي لا يشكل استفزازاً للناس وبالتحديد الفقراء. وهو منهج عظيم يجلب الراحة للحاكم (فضلاً عن المحكوم)، ويجعل قلوب الناس تهفو إليه وبشكل طبيعي لا نفاق فيه.

أختم مقالي بقصةٍ قصيرةٍ يقول مفادها أن عامل حِمص قد كَتَبَ إلى عمر بن عبد العزيز، بأن سورَ المدينةِ قد تهدَّم، فإن أَذِنَ أميرُ المؤمنين في إصلاحه، فكتب عمر إليه: «حَصِّن مدينتَك بالعدل، ونَقِّ طرقها من الظلم فإنه حصنها».

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4615 - الأحد 26 أبريل 2015م الموافق 07 رجب 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 18 | 6:55 ص

      كل مرة أقول أروع ما قرأت

      أشكرك أستاذي المبدع على هذا الإثراء والعطاء

    • زائر 19 زائر 18 | 10:37 ص

      حنش يمني

      هلا ياطير ياأخضر وين بلقاك الليلة

    • زائر 15 | 3:34 ص

      شكرا

      شكرا و سلم ذلك القلم الحر

    • زائر 14 | 3:34 ص

      شكرا

      شكرا و سلم ذلك القلم الحر

    • زائر 13 | 3:22 ص

      مقال رائع

      مع ان السماحه والحلم في الاسلام ولكن بعض المسلمين لا يفهمون الا لغة العنتريه حتى في تعاملاتهم اليوميه سواء في الشارع او البيت او العمل الخلق الحسن وعدم العصبيه راحه للنفس والضمير

    • زائر 11 | 2:46 ص

      55096

      ياريت جدي في البحرين جان الهمبا بصير الكارتون بعشرين هذا اذا لقيتونه في السوق

    • زائر 10 | 2:25 ص

      الكاتب محمد عبدالله

      أفضل كاتب عمود في البحرين بلا منازع ، باختصار يضيف لمعلوماتك الثقافيه الكثير الكثير ومحلل استراتيجي وسياسي من الطراز الأول .. شكرا لقلمك وسلمت يداك

    • زائر 9 | 1:24 ص

      جميل

      بالفعل كلام جميل وله معاني تحاكي الواقع وياليت يتحسسون اللذين هنا بالواقع .... اشكرك جزيل الشكر??? فعلا في العالم هناك أناس رائعيين

    • زائر 8 | 1:09 ص

      أمة العرب

      سبب تأخر الأمة العربية هو تلك الأنظمة التي جعلت نفسها إلها معبودا مسيجا بزرع الفتن الطائفية والتجهيل حتى يسرقوا آخر فلس من الشعوب المقهورة
      كل الأنظمة العالمية تقدمت وتطورت وبقي النظام العربي وخصوصا الخليجي على ما هو عليه من نهج قديم متقوقع على نفسه
      والأيام قادمة ولا عزاء لتلك الأنظمة ما لم تغير من نفسها

    • زائر 7 | 1:01 ص

      السكن

      نفس البحرين...
      صار لنا أكثر من عشرين سنة ننتظر بيت إسكان.. ولا زلنا اذا رحنا نراجع يعاملوننا كأننا نطر.
      تمشي في الشارع وتشوف اعلانات ال 40 الف وحدة تشك انك في البحرين.. حسبي الله على اللي يحاول يذل الناس

    • زائر 5 | 12:58 ص

      الفا

      عمر بن خطاب لما رأي الحجر الأسود قال والله إنك حجر لإ تضر والاتنفع لو مارأيت الرسول صلى الله عليه وسلم قبلك ماقبلتك

    • زائر 4 | 12:44 ص

      العقرب

      يا ليت قومي يعلمون

    • زائر 3 | 12:28 ص

      اسعد الله صباحكم بكل خير

      لربما يا اخى محمد لمره واحده اختلف معك وانت محق ولكن فضولى الشخصى وتقيمأ بما اثرته انت اقول وانا مطمئن ان الرئيس نيكولاس مادورو هو ملاك حقأ على شكل بشر نعم فكيف لا بالله الاحد الاصمد فى قوله تعالى يا عبدى اطعنى فتكن مثلى تقول لشى كن فيكون فلا مجال لمزايده على قول الرب الانسان ادا هم فى مساعده الاخرين يتصرف كما امرته السماء فى تواضعه وعطائه وصدقه وتفاعله مع الضعفاء والمحرومين وتجده فى اى موقع مستعد لتلبيت حوائج المحتاجين قبل حوائجه يد الخير مدوده على طول الخط لا ينتظر شكر من احد فى الحقيقه ملاك

    • زائر 2 | 11:30 م

      شكرا

      احسنت يا مبدع

    • زائر 1 | 10:08 م

      المقارنة فاشلة

      لو كان الذي حذف بالمانجو في البحرين سواء كان وزيرا أو وكيلا أو حتى مديرا لقامة القيامة على من ألقى المانجو ودخل في غياهب السجن وكان نسيا منسيا. لا تقارنوا ..... وزرائهم بوزرائنا ولا حتى فراريشهم بفراريشنا فنحن نعيش في عالم آخر ، عالم محكوم بتقاليد بالية كريهة نتنة دائما ما يقال عنها تراث أو موروث أو أعراف أو تقاليد خاصة بنا وهي التي أوقفت الحياة عندنا عند نقطة لا نتجاوزها وكلما تحرك شخص ليحرك الساكن قالوا له لا تتعدى حدودك ولا تتجاوز القانون وكأن العادات والتقاليد صارت قانونا .

اقرأ ايضاً