العدد 5319 - الخميس 30 مارس 2017م الموافق 02 رجب 1438هـ

حينما يموت حفّار القبور... من يا ترى سيحفر قبره؟

كان يوماً ممطراً بارداً ملبداً ومضطرباً، فتارة تبرق السماء معلنة للناس بالجلوس في أقفاصهم وترك التجوال، وتارة ترعد السماء وتفي بوعدها فتسقط كميات كبيرة إضافية، وأنا أقود سيارتي وسط هذه الأمطار والمستنقعات، ما أضحكني وأنا ذاهب للمقبرة أشاهد منظر العربات الصفراء الكبيرة وهي وسط البحيرات والأنهار بطرقها التقليدية، وكأننا في أيام الخمسينيات تتعارك مع السماء وتتصارع مع المياه في شفطها قبل أن تغرق المركبات أصلاً قبل المدينة، كانت الأسئلة تشدني وأنا أسوق وأهمها من سيدفن من؟ في هذا اليوم الممطر معدوم الرؤية، ألا يمكن تأجيل الدفن؟ لما بعد العصر حتى تهدأ السماء وتوقف أمطارها، فالرؤية معدومة والناس تركوا التجوال وحتى التسوق، وخلت الشوارع من المارة، ما خلا المركبات فجأة وأنا أقود عربتي المهترئة، إذ بدأ مؤشر الوقود يحذرني بخلو الوقود قريباً، ما هذا اليوم التعيس، كل شيء يهددني، حتى مركبتي؟ ولحسن الحظ لايزال هاتفي الجوال معي يعطيني الأخبار، لكن كما يبدو نفد ماء المساحات التي تمسح مياه الأمطار من قنينة مركبتي، وقلبي بدأ في الخفقان بسبب الجوع، لكنني قاربت الوصول لمكان الدفن، ترجلت من مركبتي كما يترجل الكابتن من مركبته الفضائية، مشيتُ خطوات لتصلني الرؤية ومشهد الناس حول القبر، ويبدو عليهم الحيرة والخوف وهم كل يشاور زميله وقريبه، وآخر كان غاضباً وهو على تلفونه تارة يترجى وتارة يرعد ويتوعد، اقتربت منهم حتى جاءني الجواب بأن حفار القبور أو الدفان لم يصل بعد.

«حتى يعرف الناس مكانة حفار القبور، الذي توفي في مثل هذا اليوم العصيب»، قاله لي قريبي... حينما يغادر الدنيا والمقبرة «أبومهدي» القائم على خدمة الناس طوال حياته تطوعاً والمعروف بحبه للناس وتطوعه الدائم، تاركاً إرثاً ثميناً ليس ذهباً ولا فضة ولكنه أغلى وأنبل وأشرف من الذهب والمجوهرات، إنه عمله وشرف وظيفته التي عاشها سنوات في خدمة تغسيل أجساد الموتى وحفر قبورهم ودفنهم من دون تردد ولا كسل ولا ملل ولا تأخير ومن دون مقابل، وأي مقابل هذا الذي سيجزيه وينصفه، هل المال يكفي؟ حينما تخرجه من بيته في مثل هذا اليوم الممطر ليلاً؟ أو في أوقات حارة كالجمر حينما تتوسط الشمس الملتهبة كبد السماء لتكوي جبهته وتشوي وهو مبتسم يشارك زملاءه في حفر القبور، يرجون رحمة وعطف الله فقط لا غير رحمة الله، لكن في مثل هذا اليوم من سيحفر قبره الطاهر ويدفنه في لحده؟

مهدي خليل

العدد 5319 - الخميس 30 مارس 2017م الموافق 02 رجب 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:36 ص

      كلامك صحيح ، لانه مؤمن لا يخاف من حمل الميت او من تغسيله ، ولان قلبه اصبح مرتبط بالله لا يرتعد وهو يحفر القبر وينزل فيه ، اغلب الناس تشعر بالخوف عند دخولها للمقبرة .

اقرأ ايضاً