العدد 4748 - الأحد 06 سبتمبر 2015م الموافق 22 ذي القعدة 1436هـ

الكتابة بوصفها فنَّ الحذف والاختزال

من سمات هذا العصر الثقافي الجديد كسر احتكار الكتابة وتعميمها للكل
من سمات هذا العصر الثقافي الجديد كسر احتكار الكتابة وتعميمها للكل

بغداد - عبدالجبار الرفاعي 

06 سبتمبر 2015

منذ بدأت الكتابة مازلت أتهيَّبها، ففي كل مرة أقرِّر أن أكتب أحاول الهروب، وغالباً ألتمس الأعذار بانشغالي، وندرة ما يتوافر لديَّ من وقت فائض أخصِّصه للكتابة، وربما هربت إلى حِيَل نفسية، تنقذني من مأزق «هلع الكتابة». كنت أحسب أني مصاب بشلل في الإرادة، وأني أنفرد بذلك، غير أني اكتشفت أن معظم الكتاب الجادِّين يعانون من ذلك، ولعل من أعنف توصيفات وجع الكتابة ما تحدَّثت عنه الأديبة آني إيرنو، بأن «الكتابة كخنجر»، أو قول إرنست همنغواى عندما سُئل عن أفضل تدريب فكري لمن يريد أن يصبح كاتباً، فأجاب: «إن عليه أن يذهب ويشنق نفسه، لأنه سيجد أن الكتابة صعبة إلى درجة الاستحالة. ثم ينزل عن المشنقة، ويفرض هو على نفسه أن يكتب على أفضل ما يستطيع للبقية الباقية من عمره. عندها ستكون لديه قصة شنقه كبداية».

يبدو أن هروبي وغيري من الكتابة يكشف عن شعور غاطس في الوجدان من خشية الفشل في إنتاج نص يرضي القراء، ويمنحنونه اعترافهم، مثلما يخشى الفشل كلّ شخص يباشر عملاً نوعياً في حياته، فيحترز ويحذر كثيراً، قبل أن يُقدِم على أية خطوة في إنجازه.

لا شك أن طلب الكمال، والرغبة بالظفر بمنجز فائق الجودة، والمبالغة في التهيُّب من الوقوع في مغامرة الأفعال الصعبة، يصبح أحياناً عائقاً يمنعنا من الانجاز، ويُقعدنا عن المباشرة بالعمل، أو يعطّلنا في منتصف الطريق عن الإصرار على المضيِّ فيه، حتى جني الثمرة. في حالة كهذه لا ينجح إلاّ أولئك المغامرون، ممن لا يتهيَّبون الاقتحام، ولا يتردَّدون في الإقدام على أي عمل، مهما كان شاقاً وخطيراً، فإن الأعمال الخطيرة لا تنجزها إلاّ الهمم والعزائم الكبيرة.

الكتّاب الجيدون قرّاء جيِّدون

يسألني الكثير من تلامذتي عن كيف يمكنهم تعلُّم الكتابة، وعن مجموعة القواعد والمعايير والوسائل التي تمنحك تلك الموهبة. وعادة ما أجيبهم أن ليست ثمة قواعد ووسائل صارمة تقودهم إلى احتراف الكتابة. بل طالما كرَّرت أنه «كما الاقتصاد سياسة مكثفة، كذلك الكتابة مطالعة مكثفة». فمن دون تراكم قراءات متنوِّعة متواصلة؛ ليس بوسعنا أن نكتب ما هو مفيد. في القراءة أيضاً علينا أن ندرك ألاَّ كتاب حقيقياً يُغني عن بقية الكتب، وأن ليس هناك كاتب تغني مطالعة آثاره عن آثار كل الكتّاب.

الكتّاب الجيدون قرّاء جيدون، ما لم تكن قارئاً نهماً، لا تكف عن ملاحقة كل ما هو مهم من إنتاج فكري وأدبي، لا يمكنك أن تكتب ما هو مهم ومميَّز؛ وخاصة مطالعة ما يتصل بالمجال الذي تتمحور اهتماماتك فيه.

ألا تبدأ الكتابة من الصفر. لا يبدأ من الصفر إلا الصفر. كل كتابة جادَّة هي نحو استيعاب وهضم وتركيب لبناء جديد، يتسع نسيج الكتابة لاستيعاب شيء من كتابات سابقة، مُعاد ابتكارها. الكتابة تتخلَّق باستمرار في صيرورة جدلية، تتمثل ابتكار السابق، وتعيد خلق اللاحق.

الكتب الخالدة هي خلاصة خصبة جداً لمكتبات كاملة، تم استيعابها وهضمها وتمثلها، وإعادة سبْكها وتكوينها في مركَّب مختلف، لا يتلمَّس مرجعياته والمناهل التي استقى منها إلاّ أولئك الخبراء من القراء.

ولا أعني بذلك المحاكاة التقريرية، أو سلخ أعمال الآخرين وانتحال كتاباتهم، أو ترجمة نصوص من لغة ثانية ونسبتها إليه، والبراعة في محو الأصول، وإخفاء آثار الانتحال والترجمة. بل أعني أن النص الجديد للكاتب هو مخلوق جديد، لا يشبه منابع إلهامه، ولا يُحاكي مطالعات الكاتب، أو يستنسخها ويتطابق معها. أي أن كتابته هي نحو تفاعل مجموعة عناصر لتنتج مركباً جديداً لا يشبهها، إنها بمثابة إنتاج مركَّب صناعي من عدَّة عناصر، لا يعود يشبهها في صفاته ووظيفته، كما هو تركيب الماء، من الأوكسجين والهيدروجين.

في الكتب الخالدة كلُّ صفحة تختزل ألفَ صفحة، كلُّ عبارة تختزل ألفَ عبارة، كلُّ كلمة تختزل ألفَ كلمة. لا تبدأ أية كتابة من الصفر، ففي كل نص ترقد الكثير من النصوص. في كل كتاب ترقد الكثير من الكتب. يتوالد كل نص مما يختزنه الكاتب من نصوص مسبقة. في كل نص تترسَّب نصوص عديدة متنوِّعة، تحيل إلى مطالعات الكاتب. كما أنه قبل كل تفسير، تفسير قبلي، قبل كل تأويل، تأويل قبلي، قبل كل فهم، فهم قبلي، أيضاً قبل كل نص، نص قبلي.

الكتابة بلا قراءة هي نحو من اجتراح المستحيل، إنها بمثابة من يحاول تشغيل محرِّك بلا وقوده الخاص. لا أنفي وجود أمثلة تفتقت عن إبداع خلّاق في الفلسفة والأدب والفن، كان منبع الإلهام الأثرى لها هو التأمُّل العميق، والسياحة العقلية الروحية العاطفية في الآفاق الظاهرة والمُضْمرة للذات والإنسان والحياة والعالم. لكن تلك الأمثلة إنْ هي إلاّ انفرادات استثنائية جداً.

الكتابة أيضاً ضرب من التفكير المزمن، والعمل المستمر على تعلُّم التفكير. وإن كان الكثيرون في بلادنا يكتبون بلا تفكير، أو يكتبون قبل أن يتعلَّموا التفكير. لا نتعلَّم التفكير إلاّ بالتفكير.

الناس بطبيعتهم ينفرون من التفكير، ومن كل ما يوقظ العقل من سباته، لذلك يفتشون على الدوام عمن يفكّر عنهم بالنيابة، فيعودون في كل شيء يسير أو خطير في حياتهم إلى من ينوب عن عقلهم.

الجبان عقله مشلول، لا طاقة لديه للتفكير، ذلك أن التفكير شجاعة، وأحياناً تكون ضريبته موجعة، وفي بلادنا من يفكِّر بحرية لابد أن يكون مستعداً للتضحية بمقامه وماله وانتمائه لجماعته؛ بل ربما حياته.

أخطر أنماط العبودية عبودية العقل، هي التي تفضي إلى عبودية الروح والعواطف والضمير. صاحب العقل يشقى بعقله. الجاهل يمرح بجهله. تعطيل العقل مهرب للخلاص من مرارات الواقع، تنويم العقل ملاذ لتخديرنا من آلام الحياة المنهكة. لكنه أيضاً ضرب من الحياة النيابية، التي تغيب فيها الأنا الشخصية، ويكف فيها الكائن البشري عن أن يكون هو.

إنما نتعلَّم التفكير بالتفكير، نتعلَّم المطالعة بالمطالعة، نتعلَّم الكتابة بالكتابة، كما نتعلَّم الرسم بالرسم.

كسر احتكار الكتابة

إن كانت الكتابة تتوالد من المطالعة والتفكير، فبماذا نفسّر تدفق كل هذا الكم الهائل كالشلاَّل اليوم من النصوص. بعد شيوع قنوات النشر المجاني، وإتاحتها الفرصة لكل من يشتهي الكتابة والنشر، أضحى عدد الكتّاب بعدد صفحات «الفيسبوك» و «تويتر» والصحف الإلكترونية والمواقع العامة والشخصية على الإنترنت. ومعظم هؤلاء ممن لا علاقة له بالقراءة بالمفهوم الاحترافي.

هذه الظاهرة تعبّر عن منعطف بالغ الدلالة، يؤشر إلى انتقال الاجتماع البشري إلى عصر ثقافي جديد. هو منعطف كأنه قدر ثقافي، لا يمتلك المرء حياله خيار الرفض والمقاطعة، لأنه يحيطنا ويغطي كلَّ فضاء في حياتنا.

حتى أولئك القلائل الذين يتعاطون معه بريبة وخوف، ويرونه ضيفاً غير مرحَّب به، يعرفون ألاَّ أحد اليوم يستغني عن الإنترنت وما يقدّمه من خدمات، وما يؤمّنه من شتى احتياجات الفرد والمجتمع، وما يموج به من بحار المعارف والعلوم والفنون، مما لم يجتمع في حيِّز واحد، بهذا الشكل المجاني الميسَّر الاستخدام، مذ عرفت البشرية تداول المعارف والعلوم.

إنها المرة الأولى في تاريخ الحضارة التي يخترع الإنسان فيها فضاءً افتراضياً موازياً للفضاء الواقعي، يعمل على تأمين المتطلَّبات البشرية الواقعية، بحذف الكثير من الكلف والمشقة والمعاناة والجهود المرهقة.

من سمات هذا العصر الثقافي الجديد كسر احتكار الكتابة، وتعميمها للكل، وهو تحوّل بالغ الأثر في الحاضر والمستقبل.

لست حانقاً أو متشائماً أو قلقاً من هذا المنعطف الكبير، في تبدُّل أنماط التعبير والإشهار والنشر، ذلك أن هذا الفضاء البديل في التمرين على الكتابة والنشر، قدر ما يتضمن من ثرثرة وهذيان وفوضى وضياع، هو أيضاً يضعنا للمرة الأولى في تحدٍ مختلف، يختبر الكتابة الأصيلة في الرهان على تميُّز حضورها، ومقدرتها على ممارسة وظيفتها في الإبداع، وإعادة خلق وبناء التفكير المختلف.

وبموازاة ذلك، ستبتكر هذه القنوات البديلة للانتشار أنماطَها المشابهة لها من النصوص، وهكذا أنماطها الخاصة من القرّاء، مثلما ترسّخ تقاليدَ أخرى للقراءة، وأساليبَ جديدة لتلقي المعرفة، بل لعلها تصوغ لنا مفهومها الخاص للثقافة والمثقف غداً.

لا أريد أن أستغرق في القول أو أتشاءم فأقول: لعل الغد سيفاجئنا بنحو تصبح فيه معايير الجودة والانتشار مغايرة تماماً لما نعرفه. لكن أود الإشارة إلى أن من ينتمي إلى تقاليد الكتابة والنشر الورقي، من أمثالي، يصعب عليه استيعاب ما ستباغتنا به طبائع الثقافة والتثقيف والمثقف الآتية.

أرى إلى ذلك، وأنا أعيش تجربة أقحمتني فيها الأجهزة اللوحية الجديدة «الآيباد»، وهكذا الهواتف مثلها «الآيفون»، التي تبدَّلت معها طرائق تلقي المعلومات وتداولها للمرة الأولى في حياتي، رغماً عني. فقد منحتني هذه الأجهزة إمكانات مدهشة للسياحة والترحال في عوالم لا يوحّدها إلاّ أنها تتضمَّن كل ما بحثت عنه من كتب نادرة لسنوات طويلة، ولم أعثر عليه، وآفاق فسيحة للمعرفة ومختلف المعلومات، وكل ما أود معرفته بغرض التعلُّم، أو الخروج من الرتابة والملل، بحثاً عن الاستراحة والمتعة، في حالات العزلة والغياب عن المجتمع.

الكثير من الزملاء في جيلي لم يسرقهم هذا العالم مثلما سرقني، إذ اضمحلت مطالعاتي للصحافة الورقية، ذلك أن الصحف كافة متاحة لي بعد صلاة الفجر كل يوم. كما تراجعت لدي حالات العودة لمطالعة الكتاب الورقي، بعد توافر أعداد لا حصر لها من العناوين، التي تبحث مختلف المعارف والفنون والآداب. كذلك لم أعد أستخدم القواميس والمعاجم والموسوعات، بعد وجود نسخها الإلكترونية محمولة معي حيثما أكون، ففي كل مرة أكتب لا أحتاج إلاّ وقتاً قليلاً لمراجعة مصادر المعلومات لحظة الكتابة، للتثبُّت من معلومات أسوقها في سياق النص، بينما كان التثبُّت من معلومة فيما مضى يتطلَّب منِّي أحياناً ساعات عديدة وربما أياماً، من التفتيش في صفحات المراجع. أتذكَّر قبل سنوات كنت أحياناً أراجع كتباً مثل: «الفهرست» لابن النديم، و «كشف الظنون»، و «معجم المؤلفين» لكحالة، و «الأعلام» للزركلي، و «الذريعة» للطهراني... وغيرها، بغية معرفة كتاب أو مؤلف أو معلومة معينة. عادة لا تضم مكتبتي كل ما أحتاجه في كتاباتي، فأضطر لمراجعة المكتبات العامة، أو ما تضمُّه خزانة كتب الأصدقاء. الظفر بكل ذلك اليوم لا يكلفني سوى استعمال مفاتيح الجهاز اللوحي أثناء كتابتي النص من خلاله، ليكشف لي عاجلاً عن بحر من المعلومات، يقدم خيارات متعدِّدة لكل ما أبحث عنه.

كنت حين أكتب في الماضي أستهلك كميات ليست قليلة من الأقلام والأحبار والأوراق، غير أني غادرت القلم والورق منذ سنوات، ووجدت قبل فترة أن مجموعة الأقلام المهجورة في مكتبتي قد تخشبت أحبارها، فألقيتها في مكب النفايات.

ينحاز جيلي للورق والكتاب، ففي كل مرة يجري الحديث عن الوظائف بالغة الأهمية للنشر الإلكتروني، وقنواته، وأشكاله، ووفرته حدَّ التخمة، نصرُّ على أن الكتاب الورقي لن يزول اليوم أو في الغد، وأن النشر الإلكتروني لا يمكن بأية حال أن يزيح ما هو ورقي. لكن منطق الواقع أشد قسوة من منطقنا الرومانسي، وحنيننا ووفائنا لذاكرتنا، وما ترسّب فيها من ألوان الحبر، ونكهة الورق، وجمال المكتبات، وتناسق رفوف الكتب، والإيقاع الهادئ لحضور الكتب في فضاء المنزل. ففي منازل الكتّاب، ممن تتبعثر الكتب بشكل فوضوي في غرف وباحات بيوتهم، يستمع منها المولعون بالورق إلى سمفونية تفيض على أرواحهم رقة وهدوءاً. لوجود الكتاب الفيزيقي معنى لا يتذوقه إلاّ أولئك المولعون بالورق، ذلك أنهم يتعاطون معه وكأنه صديق حميم، يبدّد وحشة عزلتهم، وينقذهم من القلق واليأس، ورفيق روح يبوح لهم بما لا يبوحه أقرب الخلاَّن، ومصباح يضيء عقولهم بما لا يقتبسونه من أي ضوء غيره، ومحطة استراحة تبدّد شعورَهم بالقرف والملل، وتكسر نمطية حياتهم ورتابة التكرار فيها. لحظة ينخرطون في حوار مع الكتاب: يحدِّثهم فيحدِّثونه، يصغون إليه فيصغي إليهم، يناقشونه فيناقشهم، يشاكسونه فلا يمتعض منهم، يبقى على الدوام يهبهم ما يتوقعونه وما لا يتوقعونه منه، بلا أي ثمن.

أعرف جيداً أننا كائنات مشدودة بحبل وثيق لما ترسَّب في أعماق الذاكرة، فمن يصاحب الورق والكتاب عدَّة عقود في حياته، ليس بوسعه الإفلات من شباك ذاكرته، غير أن ذلك كله لن يوقف صيرورة التاريخ، ولن يعطل روح العصر، ولن يسمح لنا أن نلبث طويلاً مسجونين في نمط ثقافتنا المألوفة، والإصرار على سلّة أحكامنا القيمية ومعاييرنا المحلية.

نحن في تحدّ أنطولوجي؛ أو قل حدث وجودي يحكي انتقالاً إلى طور وجودي مختلف، نشهد إرهاصاته في سياق تطوُّر الاجتماع البشري.

بالضرورة، سيفضي ذلك إلى تبدُّل أنماط حياتنا الثقافية، ووسائل تعاطينا المعارف، وعوامل إنتاج المعرفة، وانتشارها كونياً، غير أنه لن يفضي بالضرورة إلى المزيد من الضياع والتيه في عالمنا.

أما مآلات الكتابة، ومعايير اصطفاء ما هو نوعي ونموذجي من نصوص، في عصر فوضى الكتابة، وممارسة الكل الكتابة للكل، فربما يبدو للوهلة الأولى مستحيلاً، إلاّ أني أظن أن تميُّز واصطفاء النصوص المضيئة المتوهِّجة ليس متعذِّراً؛ إذ لا يمكن أن يحجب الظلام ضوء شمعة. ضوء الشمعة يفضح الظلام مهما كان شديد الحلكة، ولعل الشمعة وسط ركام الظلام تسفر بوضوح أشد عن شعاع نورها مما لو كانت وسط كتلة نور لمصابيح مضيئة.

إرنست هيمنغواي - آني إيرنو
إرنست هيمنغواي - آني إيرنو

العدد 4748 - الأحد 06 سبتمبر 2015م الموافق 22 ذي القعدة 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً