العدد 4942 - الجمعة 18 مارس 2016م الموافق 09 جمادى الآخرة 1437هـ

السنابس... القرية التي كانت تحيط بها السواحل

قرية تؤنسك بهدوئها، وسماحة أهاليها، ونسيم هواها، وخرير مياهها في الأنهار، وانسجام حشائشها بين مروجها الخضراء، وحفيف أشجارها المثمرات الشامخات، كأنهن يتصافحن مع النخلات العاليات، تكرمنا من أثمارها وتظللنا عن لهيب شمسها أو هطول أمطارها! نخيل لا تخلو من رطب يانع، وإن بخلت فكان بلحاً حلواً لا ممنوعة ولا مقطوعة! أحلى من العسل أو شجيرات يسقطن رطباً أو رماناً، تمتد لتلامس بحراً إما هائجاً كالأسد أو ناعماً أزرق كالحرير، يسبح فيه داود أو يشق موجه جمعة، هام في حبه شباب ورجال، فلم يبخل عليهم يوماً، فإما اصطادوا هامورا أو السمك الصافي، فيها بساتين ممتدة بين قرية وأخرى، يتخللها غدير طويل كاشفاً عن ماء عذب، يستلذ من حوله إنسن وجان، وثعالب وأرانب! فلا الثعلب سابق الأرنب، ولا الأرنب نائم مرتاح، كلاهما في الغدير متعبان.

سلاحفها تنادي صغيراتها كل صباح وهن يزحفن وراءهن من بقعة إلى بقعه، تؤنسها زغردة عصافيرها وسيمفونية بلابلها؛ لكن يعكر صفوها نعوق غربانها التي تخيفها صوتها وتسرق طعام صغارها ليلاً ونهاراً، فراشاتها صغيرات على عدد ألوان قوس قزح ترافقنا وتلازمنا عند غدونا وعودتنا من مدارسنا، يا الله ما هذه الحياة وهذه اللوحة الفنية الإلهية الرائعة! بل قل (( جنة وأعناب)) أليست جميلة أم ماذا؟

هاهو الخال حجي عبدالعزيز الطاعن في السن متكئاً على نخلة خاوية من سعفها، يتحدث إلى ابنه حبيب وهو يستذكر حياته التي عاشها مع المستعمر الإنجليزي، وهو يملي عليه أوامره كالخادم المطيع وهو يبكي ويعتصر ألما على ماضيه التليد وتراث أجداده المجيد الذي سرق اليوم، يقص همومه على ولده ناسياً قول الشاعر:» لا تشكو للناس جرحا أنت صاحبه... لا يؤلم الجرح إلا من به ألم»... حتى إذا انتهينا يا ولدي من درس القرآن غدونا إلى غدير قريب نفضفض همومنا وفقرنا نلاعب سلاحفنا... أحد أسرار الله التي حيرت عقول العلماء، إذ تسبح إلى أعالي المحيطات دون حاجز أو مانع، لتعود إلى حيث انطلقت، كأن بها جهاز تحديد المسافات (GPS).

سلاحف على عدد أصابعنا، كباراً وصغاراً، كأنها خزائن مقفلة، سرها عند خالقها، فما أعظم شأنها التي تغني عن سطوري هذه، فلن يقرأها سوى من كتبها، وسرعان ما أن ترمى في القمامة، كما قالته الضفدع:

فسرته الحكماء في فمي ماء

وهل ينطق من في فيه ماء!

عندما نسمع نقيقها

يا... من على بعد نشتاق إليها

نركض إليها، كأنها تنادينا كي نتنافس على اصطيادها، نقفز كما نراها تقفز أو نقلد قفزاتها من وحل إلى وحل، ومن نهر إلى آخر. فإما غنيمة، وإما سقوط في وحل، وضرب وكدمات من والدتنا ينتظرنا. هنا قاطع جده قائلاً لكن اليوم يا جدي ألم يكن حالكم أفضل من ذي قبل؟ فبيوت سكنية أنيقة وشوارع فسيحة وبيئة نظيفة؟

قال صحيح يا ولدي؛ قرية بدون بحر ولا ساحل، شبيهة بقرية أشباح، أو قرية يسكنها أجانب يجوبون قريتنا، يطلبون الدخان أي «السجائر» أو البرتقال من حانوت إلى حانوت، كأنهم مواطنون بيننا ثم نسمع عن جريمة قتل لا تغتفر أو عن حريق مفتعل أو هروب دون ثمن حتى أصبحنا محاصرين، بين أبراج عاليات ومعارض مركبات تشق الشارع شقا حتى يصل بخار عوادمها إلى مخادعنا.

مهدي خليل

العدد 4942 - الجمعة 18 مارس 2016م الموافق 09 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً