كان يتوارى عن أنظاري ليرتشف دخان سيجارته، هذه اللعينة السوداء، المحشوة تبغاً وسرطاناً، حتى راح يكثر منها يوماً بعد يوم، فتدهورت صحته، وتسددت شرايين قلبه وتساقطت أسنانه، وتغيرت ملامح وجه المشرق، ولم تنفع فيه النصيحة مني، وكيف يتقبلها وأنا أطوي كل يوم علبتين من الدخان، حتى ذاع صيته لدى الأطباء ومرضى العيادات بتردده عليها ليعرف بـ«المدمن»، ولم يتخل عن عشيقته كما يسميها إلا حينما انتهى به المطاف إلى غرفة الانعاش مرمياً، تقلبه أنابيب وأسلاك الهلاك، دون وعي ولا حراك تحت رحمة الأجهزة مع أصواتها المخيفة، كم كرهتها وكرهت أصواتها ومنظر تلك الغرفة المظلمة.
يومها وقفت حائراً في دهاليز العيادة كالطير مكسور الجناحين محتارا، ماذا أفعل بعد أن وقع الفأس بالرأس؟ حينها سرحت مع عقلي المغلوب وهواي الغالب، سافرت بعيداً أفكر في حالي وحال ابني شمعة الحي بجماله وطوله الفارع الذي تحول إلى كرة لحم صغيرة فوق سرير ملك الموت الذي ينتظره بفارغ الصبر! ابني وردة البيت الذي سأفتقده يوماً ما وسيغيب عن حياتي مدى الحياة، لست حزيناً بقدر ما كنت كئيباً تحت تأنيب الضمير بسببي أنا. نعم، أنا السبب في تدهور حياته وصحته. سلوكي وتصرفاتي معه هي التي أوصلته إلى ما وصل إليه، منذ أن كان صغيراً كنت آمره أن يجلب علب السجائر من حوانيت الحي، يومها كان غصناً يانعاً وفرخاً جميلاً يغدو فرحاً مسروراً، ويفرغ وقته لذلك، حتى كشفته أمه من خلال روائح ملابسه، حيث كان يشتري علبتين، واحدة يخفيها عني، والأخرى يسلمها لي. وما زاد الطين بلة، حينما شب وبانت عليه ملامح الإدمان والهلاك، تحول إلى عالم جديد وسلوك آخر، تحول إلى النارجيلة الالكترونية، ليوهمني انه لم يعد يرتاد المقاهي الليلية... ما أقسى هذه الحياة حينما تسلب منك روحك وردتك وزهرتك التي سقيتها وسهرت عليها الليالي والأيام، ثم تفقدها بسبب سيجارة... نعم سيجارة صارت كالشكولاته توزع بين طلاب المدارس بمرأى ومسمع من أولياء الأمور.
حينها، وأنا في حالتي هذه، كنت أسمع بالكاد اسمي من مكان بعيد، لكنني كنت مشغولاً مع سيجارتي أرتشف آخر آنفاسها من يد ابني الميت سريرياً... آملاً، ربما يصحو من غشوته ويعود لي؟... هل ستأتي يوما ما؟
اسمع احدا يناديني: أنت محمود أبوشنب؟ ألا تسمع يا أخي اسمك.
فجأة انتبهت من غفلتي لكن بعد فوات الآوان، انتبهت على جنازة ابني! حيث أخبروني أن الطبيب يطلبك. حينها اقشعر بدني من شدة الخوف والقلق، وصرت لا أقوى على المشي، إنما كنت أجر رجليّ إلى مستودع الموتى حيث يرقد ابني، كي أستلمه وأسلمه لملك الموت؛ لكنني بقدر ما ابني كسر ظهري، حتى سقطُ جسدي من على الكرسي إلى الأرض مغشياً علي، حينما قرأت تقرير الطبيب، وبانت منه عبارة بين السطور، وكأنها السيوف تقطع جسدي والسكاكين تمزق أحشائي، قالها ابني يوماً ما للطبيب: «إن أبي لا يدخن كثيراً، لكنه يشرب المنكر فتعلمت منه»!
مهدي خليل
العدد 5264 - الجمعة 03 فبراير 2017م الموافق 06 جمادى الأولى 1438هـ
قصة معبره جدا
فن القصة اكثر قدرة على تغيير السلوك من الاعلانات
جدا رائعة.. ابكتني لمرروني بموقف مشابه مع جدي الله يرحمه ومعاناته جراء التدخين.. الله يبعد هذا السم عن الناس.. اتمنى ان يقرأ البعض هذا القصة ليعلموا ان الضرر ليس عليهم فقط بل على احبابهم والقريبين منهم.. شكرا اخي مهدي
اعجبتني .. كل حررف منها ينبض مشااعر صادقة وقصة واقعية تحمل في جنباتها نصائح واحاسيس صادقة نود لو نوصلها لكل من نحب
طرح جميل ..وقصة معبرة