العدد 5298 - الخميس 09 مارس 2017م الموافق 10 جمادى الآخرة 1438هـ

في تأبين الوالد بعد رحيله...

أغمضت جفنيك راحلاً إلى جوار ربك الغفور يوم السبت (25 فبراير/ شباط 2017) تاركاً ذكراك ماثلة أمامنا تمر في خواطرنا كأننا نعيشها الآن، كما عشناها من قبل إلا أنك لست معنا الآن. مازلت أتذكر محطات من حياتك، رسمت خطوط حياتنا معاً، وأضفت لمساتك الشخصية عليها. كنت شغوفاً بالدراسة والعلم، تحرص أشد الحرص على تعليم أبنائك وتراجع معهم دروسهم المدرسية، ولا تتهاون قيد أنملة إذا أخلوا بدراستهم؛ لأنك كنت مؤمناً أن العلم هو سبيل النجاح وأن التعليم هو مفتاح المستقبل، كنت رجلاً مثقفاً مطلعاً على أحوال العالم ومتغيراته، ترصد كل شاردة وواردة فيه وتحللها وتفحصها وتبني عليها استنتاجاتك، متخذاً لك رأياً مستقلاً في كل قضاياه، تتقن ثلاث لغات أجنبية بطلاقة، الإنجليزية والفارسية والأردية، وتقرأ وتكتب وتتحدث بلغتين، العربية والإنجليزية، بل أتذكرك كيف كنت تجلس معي في البيت لمراجعة دروسي بالإنجليزية، حرصاً منك أن أتقنها مشدداً على أنها من أسلحة العصر. وأتذكر أنه عند تخرجي من الثانوية العامة العام 1969 اتخذت قرارك بأن أكمل تعليمي في الخارج، وكنت حينها أرغب أن أدرس في بيروت أو القاهرة، وبالأخص القاهرة لأنها كانت تخوض حينذاك حرب استنزاف ضارية تجري على امتداد جبهة قناة السويس بعد عدوان يونيو 1967، وكنت أتمنى أن أعيش ذلك الواقع عن قرب، وأرى كيف تمتزج الإرادة بالدم من أجل تحرير الأرض من الاحتلال، لكني فوجئت بأنك كنت ترغب أن أدرس خارج الوطن العربي، في الوقت الذي كنت أعتقد أنك لن تمانع أن أدرس في بلد عربي بسبب البعد العروبي لرؤيتك السياسية، وقد قلت لي ادرس خارج الوطن العربي لأنك ستكتشف العالم وستتعرف على الشعوب بشكل أفضل، وأخيراً كانت الكلمة كلمتك، لكني أيقنت بعد سنوات بصوابية رأيك؛ لأن ذلك مكنني من الانفتاح على الثقافات الأخرى، وأن أبني صداقات في أنحاء واسعة من العالم. وأتذكر أنه في اليوم الأخير من الامتحانات المدرسية النهائية يأتيني الطلبة من أبناء حينا «المخارقة» ليطلبوا مني أن أخاطبك في إيجاد فرص عمل لهم في مصنع «ستيم» الذي كنت مديراً له حينذاك، وذلك أثناء الإجازة الصيفية والتي تمتد لثلاثة شهور، فأكلمك عنهم، وكانت احتياجات المصنع تزداد أثناء فصل الصيف بسبب تزايد الطلب على المرطبات في الحر من قبل الجمهور، وبسبب كثرة حفلات الزواج في الصيف وخاصة أن المرطب «ستيم» كان يتميز بكونه الأكثر تنوعاً في منتجاته، ما يجعله مرغوباً لدى أصحاب الأعراس، فتجد أن هناك حاجة ملحة لرفع الطاقة الإنتاجية للمصنع أثناء فصل الصيف، ولا تمضى سوى أيام قلائل إلا ويجدون لهم فرص عمل في المصنع يستفيدون مما يحصلون عليه من أجر من أجل الاستعداد للعام الدراسي الجديد، ويقضون وقتاً مفيداً في العمل أثناء الإجازة المدرسية. ولا أنسى كيف يأتي أبناء الحي من الذين تركوا مدارسهم لظروفهم الخاصة، ويطرقون باب بيتنا ويسألون عنك عندما أخرج لهم وأدرك أنهم آتوا بحثاً عن فرص عمل دائم لهم في المصنع، وحيث كنت تعود إلى المنزل عادة متأخراً في كل ليلة؛ لأنك كنت تراجع حسابات المبيعات اليومية للمصنع، أطلب منهم الذهاب إلى المصنع مباشرة، وخاصة أنه قريب من الحي يقع شرق قلعة الشرطة بالمنامة وذلك للقائك، وعندما تعود إلى البيت أحرص أن أبلغك عمّن جاء من أبناء الحي للسؤال عنك، فتدرك أنهم طالبو فرص عمل في المصنع، وسرعان ما يحصل هؤلاء أيضاً على أعمال في المصنع.

أذكرك كيف اصطحبتني مع أخي الأكبر سناً مني، وكنا صغاراً حينذاك، إلى سينما البحرين بالقضيبية لمشاهدة فيلم «جميلة «المصري الذي يروي حكاية أيقونة الثورة الجزائرية «جميلة بوحيرد» واعتقالها على أيدي مستعمري بلادها الفرنسيين وتعذيبها تعذيباً وحشياً، كان ذلك فصلاً من فصول حرب التحرير الجزائرية، وكان أول فيلم سينمائي أشاهده في حياتي، وكانت قاعة السينما غاصة بالرواد، لأنه فيلما سياسي وكان جمهور البحرين مولعاً بالأفلام السياسية؛ لأن المنطقة كانت تمر بتطورات سياسية متلاحقة، وكنت أعرف أنك كنت مناصراً لثورة الجزائر، لم تتردد في تقديم الدعم المادي لها، من خلال التبرع لها عبر المجموعات التي كانت ناشطة في البحرين آنذاك سراً وجهراً والتي تجمع المال وترسله إلى مكتب جبهة التحرير الوطني الجزائرية في القاهرة، تتبرع بالقليل من المال لكنه كبير بالنسبة لشعب يطمح إلى التحرر.

وكنت مناصراً لمصر وقيادتها الوطنية في كل الأوقات ولاسيما إبان العدوان الثلاثي على مصر العام 1956، وكنت مبتهجاً بقيام الوحدة بين مصر وسورية العام 1958 لأنك كنت مؤمناً بأن قدر أمتك العربية ورفعتها يكمنان في وحدتها ورص صفوفها، وكم كنت حزيناً جراء ما أصاب هذه الوحدة من انفصام نتيجة الانفصال في سبتمبر/ أيلول 1961. كنت مناصراً ومؤيداً لكل الشعوب الطامحة إلى الحرية والاستقلال على امتداد كوكب الأرض، في الجنوب العربي والكونغو وفيتنام وطبعاً فلسطين، وتعبر عن تأييدك لها كلما أتيحت لك الفرصة. وأتذكر حادثة أخبرتني بها العائلة ولم أكن حينها في البحرين لأني كنت في بدايات دراستي الجامعية بالخارج، حيث أصابك نوع من الخرس لمدة ثلاثة أيام لا تتحدث إطلاقاً حتى مع عائلتك بسبب الصدمة التي سببها لك رحيل الزعيم العربي عبدالناصر في 28 سبتمبر 1970 وهو الزعيم الذي أحببته طيلة حياتك، وكان الحزن كامناً في أعماقك جراء رحيله المفاجئ. لقد كنت واحداً من الوجوه الوطنية المعروفة في «المخارقة»، المحبة لوطنها ولأمتها العربية إلى جانب المرحوم الحاج يوسف زليخ، والمرحوم الحاج عبدالمجيد العرادي.

لقد مررت بظروف صعبة أولها رحيل والدك في يناير/ كانون الثاني العام 1936، وكنت وإخوانك وأخواتك صغار السن حينذاك، حيث لم يتجاوز سنك حينها 14 سنة، فقدت عطفه ورعايته على رغم كون والدك من أكبر تجار التمور في البحرين إلى جانب كونه تاجراً لمواد غذائية أخرى كالرز والسكر والسمن، وكان عليك أن تشق طريقك في الحياة بجهدك وعملك، وأثناء الحرب العالمية الثانية وبسبب الأوضاع الاقتصادية العالمية الناتجة عن الحرب اضطررت إلى بيع كل ما ورثته من والدك رحمه الله، وذلك للإنفاق على أسرتك الصغيرة التي بدأت في تكوينها حينذاك، ولم يتيح لك إلا في مطلع السبعينيات من القرن الماضي شراء منزل كبير في حي المخارقة بالمنامة، والاستقرار فيه حيث كان قريباً من موقع عملك.

كان معارفك كثيرين جداً لكن أصدقاءك قلائل، اخترت منهم الخلص والأفياء كالمرحوم السيدحمزة العلوي والمرحوم السيدهاشم المشقاب والمرحوم الحاج علي الدرازي ويوسف عبدالملك الشهابي، هؤلاء خصصتهم بعلاقة صداقة وثيقة جداً واصطفيتهم من بين جميع معارفك بثقتك.

وكنت تعشق من الشعر أعذبه وأصدقه، ومن الفن أسماه. فقد كنت متذوقاً للشعر تحفظ قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي وترددها على لسانك، وكذلك أشعار إيليا أبوماضي ولاسيما قصيدته «الطلاسم»، إلى جانب أشعار أبوالعلاء المعري. وكنت تسمع أعذب الفن حيث اخترت منه أعلى القمم، وكثيراً ما تستمع إلى أجمل القصائد «كالنهر الخالد، والجندول، وكليوبترا، والكرنك، وضياء الشرق، وجبل التوباد، وعندما يأتي المساء» لأنك كنت تؤثر أعلى القمم فيه.

سفرياتك كثيرة منها للحج والعمرة والزيارات ومنها للتنزه والاستجمام؛ لكني أتذكر واحدة منها وهي سفرك إلى لندن العام 1976 لعلاج شبكية العين عندما تعرضت شبكية عينك لتمزق، فاضطررت إلى السفر للعلاج هناك، وأجريت لك عملية ناجحة في الشبكية كانت مهمة بالنسبة لبصرك بقية حياتك. وكنت دائم التردد على المجالس الحسينية ولاسيما في الحسينية التي أسسها أجدادك بوسط المنامة «زبر»، ولم تنقطع عنها سوى في السنتين الأخيرتين من حياتك بسبب ظروفك الصحية، وكنت تحفظ ما يلقى فيها من قصائد، فصحى وعامية.

لم يشاهدك أحد قط في أي يوم واقفاً على أي باب من الأبواب، ولم تتزلف، عشت عفيفاً ومضيت خفيفاً، خفيف المؤونة وكما قال سيد البلغاء (ع) «فاز المخفون يا سلمان»، نعم لقد فزت يا أبا فؤاد، رحمك الله بواسع رحمته ورضوانه وأسبغ عليك شآبيب عفوه وغفرانه وأكرم مثواك وأسكنك فسيح جناته، إنه أرحم الراحمين.

ابنك: منذر الخور

العدد 5298 - الخميس 09 مارس 2017م الموافق 10 جمادى الآخرة 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً