يعيش سكان بيوت الصفيح في منطقة «الزنج» التابعة لضواحي العاصمة في مأساة قد لا يتسنى لها أن تتكرر، مرت عشرات السنين، مات جيل طحن في معيشة كهذه، وولد جيل آخر، وبيوت الصفيح أو الخرائب التي لا تقي من حر ولا من برد تنتقل من موقع إلى آخر لتتجدد فيها المعاناة. تاريخيا، تمتد جذور هذه البيوت إلى العام ،1930 إذ كان أجداد الأحفاد - الذين يعيشون اليوم في خرائب «الزنج» ذاتها - يعيشون في منطقة «الحورة» في حي كان يعرف بـ «البرستيه»، بيد أن ملاك الأراضي من التجار لم يمهلوهم طويلا وطردوهم، مما قادهم إلى الزحف نحو «العدلية» ليسكنوا بيوتا خشبية في بقعة عرفت فيما بعد بـ «الدفنة». الحوادث لم تكن أكرم من التجار الذين طردوهم من تلك الأراضي في الحورة، فشب حريق أحال مساكنهم الخشبية إلى رماد في العام ،1960 فنقلت إدارة «الطابو» إذ ذاك المتضررين منهم إلى حيث هم الآن في منطقة «الزنج» في بقعة كانت مخصصة لرمي المخلفات والقمامة. وسيرا مع البعد الزمني، فإن إدارة «الطابو» أبرمت معهم في العام 1965 عقود إيجار كتسجيل رسمي لمحل إقامتهم، بعدها خلفت إدارة التسجيل العقاري نهج استلام الإيجارات من قاطني المنطقة الذين لم تصلهم خدمات الكهرباء والماء إلا بعد سنوات من الانتظار. لم يتوقف تتابع الحوادث عند هذا الحد، بل ظلت قضايا المحاكم تطاردهم بدعوى إخلاء الأراضي، وهدم عدد من الخرائب، فيما قبع الباقون تحت وطأة انتظار قرار الهدم، بعد أن بيعت الأراضي للمشترين وتحولت إلى أملاك خاصة. حبيب إسلامي الذي قضى من عمره أكثر من 37 عاما في بيوت الصفيح يؤكد أن الأراضي كانت ملكا للدولة، لكن عددا من الأشخاص تقدموا بطلب تحويلها إلى أراضي ملك ووُهبت لهم ذاك الوقت «من دون أن يتلقى ساكنو المنطقة أمرا بالإخلاء، على رغم العلم المسبق بواقع حالنا على هذه الأراضي» كما يقول. إسلامي الآن يحلم باليوم الذي ينتقل فيه إلى بيته الموعود في القرية الجديدة التي أعلنت عنها محافظة العاصمة قبل شهور نصت عليها مكرمة ملكية ستنشأ على ضوئها 50 وحدة سكنية تخصص جميعها إلى أهالي مجمع 332 في «السقية»... فقد يكون إسلامي واحدا من الخمسين المحظوظين. قضى غلوم علي حياته في «المجمع» ذاته، قصّ على «الوسط» كيف مات عدد من الرجال داخل الأقفاص الخشبية، ولم يسمع عنهم إلا بعد ما فاحت رائحة العفن من جثثهم. ويقول: «أذكر أننا لم نعرف بموت الحاج عباس إلا بعد ثلاثة أيام من وفاته، فقد مات وحيدا في الخربة التي يسكنها». ويضيف: «تغير الوضع الآن... وكلنا ننتظر تغير الحال، بعد المكرمة الملكية التي ستمنحنا بيوتا آمنة نستقر فيها بعد سنوات العناء». صالح أحمد قال: «وضعنا يشذ عن باقي المجتمع البحريني، فلا بيت نسكنه كباقي خلق الله، وضيق الحال يقف حائلا دون الخروج من هذا الموضع اللا إنساني». المعمرون هناك لا يزال الأمل يحدوهم بأن يعيش أحفادهم حياة كريمة غير التي عاشوها خصوصا وأن أغلب المنتسبين لهذه البقعة من الأرض شملتهم مكرمة التجنيس وتحولوا من أقلية (البدون) إلى بحرينيين بالسلالة بعد أربعين عاما من المعاناة. على الصعيد الرسمي فإن المدينة المرتقبة تبلغ كلفتها 600 ألف دينار بحريني، ويتوقع أن تنفذ في غضون 18 شهرا - على أقصى تقدير - من تاريخ الإعلان عنها في سبتمبر/ أيلول الماضي. كان عدد من الباحثات الاجتماعيات العاملات في محافظة العاصمة قد اعددن دراسة مسحية على سكان مجمع 332 في منطقة «السقية» وخرجن بنتائج مفادها أن 273 شخصا يقطنون المجمع، منهم 8,35 في المئة مستواهم التعليمي لا يتجاوز الابتدائي، 18,3 في المئة إعدادي، 11,7 في المئة مستواهم ثانوي، و0,7 في المئة تعلميهم جامعي، فيما لم يصل 12 في المئة إلى أي مرحلة تعليم بمعنى أنهم أميون تماما. وحسب مصادر ذات صلة فإن الترتيبات لبناء الوحدات السكنية أخذت طريقها إلى التنفيذ وإذ يتوقع أن تطرح المناقصة في غضون الأيام القليلة المقبلة، من المرجح أن تطرح عملية إنشاء المجمع في مناقصة عامة أواخر شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إلا أنه مضى من دون أن يحمل معه هذه البارقة، في الوقت الذي تجرى فيه تسوية الأراضي في منطقة «توبلي» التي ستشيد عليها 50 وحدة سكنية، على أن تنتهي مراحل البناء في ديسمبر/كانون الأول .2003 ولكن يبدو أن العملية لن تمر بهذه السلاسة المتوقعة، فأهالي «توبلي» أنفسهم كانوا يأملون بمخرج من الضيق السكني الذي هم فيه، إذ يقول مختار قرية «توبلي»، سيد علي سيد محفوظ في حديث إلى «الوسط»: «نحن نتفهم معاناة أهالي منقطة «السقية»، لكننا طالبنا منذ التسعينات بتخصيص لأراضي ووحدات سكنية لأبناء المنطقة في ذات الأرض التي خصصت لأهالي «السقية»، غير أن طلبنا لم يستجب له». ويضيف: «في «توبلي»- وتوابعها - تسكن حوالي 15 ألف نسمة، وهناك بيوت متداعية كثيرة في المنطقة وتسكن خمس عائلات في بيت واحد بواقع خمسة أفراد أو أكثر في غرفة واحدة». ويزيد مختار المنطقة: «رفعنا الوضع إلى وزير الإسكان السابق، وفصلنا في شرح قصص العائلات في ‹›توبلي››، هناك من ينتظر الخدمات الإسكانية لأكثر من 10 و15 سنة، لكننا لم نلمس نتيجة». محفوظ يؤكد أن كل قرى البحرين هي «المقشع»، وكلها تحتاج إلى عناية كالتي حضيت بها «المقشع». ويقول: «نحن أهالي المنطقة، نحن أصلها ونمثل عراقتها، فـ «توبلي» من أقدم قرى البحرين، وأبناء المنطقة أحق بأراضي المنطقة، خصوصا وأن سنوات الانتظار تعصرهم وعدد الأبناء يزيد في مكان لا تغير فيه المساحة، والشباب مكتوفو الأيدي لا يستطيعون الزواج لعسر الحال وقلة المكان». ويضيف: «هناك بيوت آيلة للسقوط، وأصحابها لا يستطيعون فعل شيء لضيق الحال، لا تزال المنطقة تشكو من قلة الإنارة وسوء رصف الشوارع، وقلة الخدمات(...) نطالب بلجنة تنظر في أمر المنطقة قبل أن تذهب أراضيها لغير أبنائها... فكلما تحدثنا إلى أعضاء المجلس البلدي قالوا: لا توجد ميزانية، وأنهم يرفعون التصورات وينقلون الشكوى فقط، لكن الشكوى تحتاج إلى من ينظر فيها ويصدر القرار بشأنها». كما في محطات سابقة، تطل «نوافذ» اليوم على أقدم حال مجهرية يعيشها أناس في البحرين منذ أربعين عامامهما كبر أو صغر عددهم... ولدت أجيال وعاشت أجيال تحت وطأة العذاب والفقر والمعاناة وفقد الهوية، والوضع بالكاد يعبر لتوه المنعطف ليتجه نحو الاستقرار. ووسط التأكيد على أن كل قرى البحرين هي صور متكررة لقرية «المقشع» التي حالفها الحظ من دون كل القرى البحرينية الأخرى بزيارة سمو ولي العهد الذي رفع تقريرا إلى عظمة الملك فأمر من فوره بتشييد وحدات سكنية جديدة لأبناء المنطقة؛ تنتظر باقي القرى في البحرين دورها في الطابور الطويل، في الوقت الذي يرتقب أهالي « السقية « - بشوق - العبور من ممر طالت عليه السنون إلى المستقر، حتى وان كان بعض من أهالي «توبلي» لا يرحبون بهم ويحسدونهم على ما هم فيه أو ما سيكونون عليه بعد حين.
في العام 1960 شب حريق في بيوت الخشب في العدلية، وبناء على أوامر إدارة الطابو (سابقا) تم نقل المتضررين الى المنطقة المذكورة أعلاه والتي كانت تسمى سابقا بـ «الدفنة»، وهذه المنطقة (الدفنة) كانت مكانا لرمي المخلفات والقمامة. - استمرت العوائل في العيش من دون أية رعاية او اهتمام من قبل الدولة. إذ لا ماء ولا كهرباء ولا حتى أوراق تثبت هويتهم. إذ كان الحرمان هو السمة البارزة لحياتهم. - منذ 1965 بدأت إدارة الطابو إجراء عقود إيجار للساكنين في خطوة نحو تسجيل رسمي لمحل إقامة المتضررين (الوثائق القديمة بحوزة الساكنين تثبت ذلك). - استمرت إدارة التسجيل العقاري على نهج إدارة الطابو بتأجير تلك الأراضي على الساكنين واستلام الإيجارات. - إدارة ا لكهرباء والماء تحركت بعد طول انتظار لإيصال الخدمات للساكنين. - إذ أن أراضي تلك المنطقة كانت ملكا للدولة، فقد تقدم بعض المواطنين بطلب الحصول على هذه الأراضي هبة أميرية، على رغم معرفتهم السابقة بسكن وعيش تلك العوائل المتضررة والمحرومة. وقد حصل البعض على مبتغاه وصمت دهرا، إلى أن ارتفعت أسعار الأراضي في المنطقة، فتقدم بالضغط على الأهالي ومن ثم رفع دعوى على الساكنين. - الهيئة البلدية المركزية لم تتحرك لاقناع التجار بعدم شراء الأراضي في تلك المنطقة، فتعاقبت ملكية الأراضي من مالك إلى آخر. - بعض المالكين وبوازع إنساني وديني أحجموا عن رفع قضايا الى المحاكم لإجبار الساكنين على ترك الأراضي، لكن البعض الآخر رفع الدعاوى، والمحاكم أخذت تبت فيها. - بتاريخ 31 مايو/آيار 2000 رفضت محكمة الاستئناف العليا المدنية برئاسة القاضي صقر محمد الزياني تلك الدعاوى، لأن الساكنين قد وقعوا عقود إيجار مع البلدية قبل أن يتملكها أصحابها الجدد. - رفع ملاك جدد دعاوى جديدة بغرض إخلاء تلك الأراضي، وقد بدأت المحكمة في البت فيها، ما جعل الساكنين يعيشون هذه الأيام في قلق على مصائرهم. - لغاية 27 يونيو / حزيران 2002م لم تتحرك وزارة الإسكان لحل هذه المأساة الإنسانية خصوصا بعد ان حصل جميع القاطنين على الجنسية البحرينية وأصبح من حقهم العيش في مساكن لائقة أسوة بباقي المواطنين. - في سبتمبر/أيلول الماضي صدرت مكرمة ملكية نصت على بناء 50 وحدة سكنية تأوي هذه الأسر ويتوقع أن ينتهي بناؤها في العام.2003.
العدد 86 - السبت 30 نوفمبر 2002م الموافق 25 رمضان 1423هـ