انشقاق وابتعاد الدولة عن الأمة، يخرجها من كونها مؤسسة من مؤسسات الأمّة، وذلك لأنّ انشقاقها وخروجها عن الأمّة، يعني فيما يعني أن الدولة تقوم بأدوار أو تمارس خيارات ليست من خيارات الأمة. ويمكننا القول تاريخيا بأن مرحلة ما بعد صفين، هي المرحلة التي تبلور في المجال العربي والاسلامي للدولة مشروع خاص، وهو مشروع الاستحواذ والقمع بعيدا عن مصالح الأمة الحقيقية وشؤونها العليا.(إن المشروع السياسي للاسلام هو تكوين الجماعة/ الأمّة. فهي الإطار الوحيد الذي يمكن أن يمارس الفرد فيه شعائر الدين كاملة.وهي المجال الوحيد لتحقيق الدين. وإنْ كانت مفارقة سخيفة أن نقول إن الدين لا يمكن تحقيقه خارج الجماعة لكنها حقيقة بديهية ربما يتناساها الكثيرون من الذين يعتبرون أن الدين، خاصة الاسلام، يمكن تحقيقه على الصعيد الفردي المحض. هذه التجربة حاولتها الصوفية لكنها تحولت عنها بعد فترة من الزمن.فقد بدأت الصوفية كأسلوب فردي في التعبير والاتصال بالله لكنها تحولت مع مرور الزمن إلى ممارسات جماعية وصارت طرقا جماعية).
واختلاف المسلمين التاريخي لم يكن بشأن الأمة ودورها التاريخي والحضاري، ولا عن ضرورة الدولة وأهميتها للتجربة الجديدة، وإنما عن عملية إنشائها، وطريقة ممارستها لأدوارها في الأمة على الصعيد الداخلي والخارجي، ومن أين تستمد شرعيتها وسلطتها، فالإطار المرجعي لكل المسلمين مع اختلافاتهم وتباين وجهات نظرهم بعد انتقال رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى لم يكن الدولة وإنما الأمة.
وهذا ما يفسّر لنا صمت الإمام علي بن أبي طالب (ع) عن حقوقه لمصلحة بقاء الأمّة واحدة - متحدّة. إذ يقول: (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ علي خاصة التماسا لأجر ذلك وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه).
ولقد كان لقيم الإخوة والمساواة والتعاون والتكافل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومؤسسات العلم والمعرفة والخير، وجهاد وجهود الفقهاء والعلماء والمصلحين دور مركزي في تثبيت مرجعية الأمّة، وأنها صاحبة لاصوت إلاّعلى في التجربة التاريخية الإسلامية. ومن خلال هذه القيم والمؤسسات كانت الأمّة تؤكّد ذاتها، وتعمل على تنفيذ مشروعها الحضاري، وتحصين كيانها في مواجهة أخطار الدولة المنحرفة، المستبدة، والأخطار القادمة إلى الأمّة من الخارج.
(يتبع)
* كاتب وباحث سعودي
العدد 2149 - الخميس 24 يوليو 2008م الموافق 20 رجب 1429هـ