من الصعب أن تصف طيبة أهالي قرية «الجَسرة»، وإذا كان في مقدور الزائر للقرية أن يمتع ناظريه بجمالها وهدوئها وزينة طرقاتها، فسيحمل من دون شك ذكريات جميلة عن هذه القرية... وإذا زار أحد مجالس أهلها أو حضر لقاء بقاعة مناسباتها الصغيرة مساحة، الكبيرة بمعانيها البحرينية الأصيلة، سيغادر وهو ينوي العودة بلا ريب.
يقال، إن اسمها اشتق من جسارة أهلها وحبهم للعمل والبناء والتعمير، وهناك رواية أخرى تقول إن أصل التسمية يعود إلى أسطورة قديمة تقول إن بالقرب من هذه القرية سيقام جسر كبير، ولذلك سميت «الجَسرة» بهذا الاسم حتى قبل إنشاء جسر الملك فهد، لكن لا يوجد مصدر يؤكد دقة تسمية القرية بهذا الاسم.
عموما، «الجَسرة» هي من القرى العريقة في المحافظة الشمالية، وتشتهر بـ «بيت الجَسرة»، وهو موقع تراثي بناه الشيخ حمد بن عبدالله آل خليفة في العام 1907، وسكنه الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة (حاكم البحرين 1942 - 1961). وولد فيه المغفور له سمو الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، وأعيد ترميمه في العام 1986 ليصبح معلما تراثيا سياحيا. أما الهدف من إنشائه فهو التعريف بالنمط المعماري القديم في البحرين، وتشرف عليه إدارة الآثار والتراث بوزارة الإعلام.
ويتألف بيت الجسرة من المجلس، وحجرة المعيشة التي ولد فيها المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان طيب الله ثراه، ويضم المطبخ وحجرة المقعد الخاصة بالنساء والمدبسة، والغرفة العلوية، والدار (وهي حجرة الشتاء)، بالإضافة إلى المجلس الخارجي الخاص بكبار الضيوف.
ويضم المتحف المساند، والمطارح القديمة، والسجاد الإيراني، والمرشات، والصور القديمة، وأدوات القهوة القديمة. يتم الحصول عليها عن طريق الإهداء، والشراء، وتعرض بحسب نوع المادة، ووسيلة إيضاحها عن طريق الصور والرسومات التوضيحية، ويزوره سنويا أكثر من 80 ألف زائر وفقا لإحصاءات المتحف.
في موقع «هذيان الحروف» كتبت إحدى الطالبات البحرينيات وصفا انطباعيا قالت فيه: أخذني إليها زيارة بغرض شراء هدية تذكارية من «مركز الحرف» الذي يتخذ أقدم مدرسة صناعية في البحرين مقرا له الآن. في «مركز الحرف» وجدت ضالتي بين الكثير من المعروضات، لوحة لأربع فتيات بالزي الشعبي في أحد أحياء البحرين. سألت الفتاة الموجودة في المعرض عن الفنان صاحب اللوحة المتميزة فأخبرتني أنها لبحريني يناهز الستين عاما من قرية الخميس. كانت لوحة بديعة فعلا لم أتردد في اقتنائها على الفور على رغم تجاوز سعرها للموازنة المرصودة.
ثم دار حوار بيني وبين البائعة حول الحرف البحرينية وأماكن وجودها فاقترحت عليّ زيارة «مركز الحرف» بالجَسرة ومجمع العاصمة للأسر المنتجة الذي أفتتح حديثا بالقرب من مجمع السيف. قلت لها إن آخر زيارة لي لـ «مركز الجَسرة للحرف اليدوية» كانت قبل سنوات طويلة، وإنني منذ ذلك الوقت لم أزر هذا المكان لدرجة أنني غير أكيدة إن كنت سأعثر عليه بسهولة. هكذا ومن دون تفكير مسبق حسمت أمري وسلكت الطريق المؤدية إلى قرية الجَسرة ولا أعرف لماذا خامرني شعور غريب منذ أن وصلت إلى مدخل القرية. الشعور ذاته الذي يخالجني كلما لمحت الأشجار الوارفة الظلال وهياكل البيوت القديمة في منطقة الصخير... ذكريات زمن مضى لم يتبقَ منه سوى بعض الصور العابرة في المخيلة.
حينما وصلت إلى المركز شعرت بروح المغامرة كتلميذة تبتهج أساريرها لخبر رحلة مدرسية، أبهجني رؤية مجموعة من تلميذات المرحلة الابتدائية يجلن أروقة المركز بصحبة معلمتهن، فلم أستطع أن أمنع نفسي من فرصة العيش مجددا في تلك الأيام من خلال مشاركتهن صخبهن وأسألتهن قبل أن ينطلقن مسرعات لشراء الآيسكريم من حافلة كانت متوقفة بالقرب من المركز.
تجولت في مركز الجسرة الذي كان عبارة عن غرف صغيرة متلاصقة تم تخصيص بعضها لورش عمل، وبعضها الآخر لمراكز لبيع الهدايا. ومن الأواني الفخارية، إلى السلال المصنوعة من سعف النخيل، إلى الصناديق الخشبية لصناعة النسيج، اعترضتني الكثير من الحكايات والروايات حتى وصلت إلى المرسم الخاص بالفنان سامي المالود.
في مرسم المالود شدتني لوحة يغلب عليها اللون الأخضر لرجل مسن، شخصية بحرينية حقيقية كانت تقطن منطقة الحد. سلمان هو الكهل الذي كان يعيش في غرفة صغيرة يطلق عليها دار موسى، آخر ما تبقى من جزيرة أم الشجر التي كان يقطنها سابقا بعض العائلات البحرينية المعروفة قبل أن يتوفى تاركا وراءه آخر أثر للجزيرة.
في الجانب الآخر من المرسم لوحة أخرى لسلمان يبدو فيها متكئا على رجل آخر هو يوسف، شخصية بحرينية أخرى كانت تقوم بقضاء الحاجيات للعائلات البحرينية التي يذهب رجالها للغوص والبحث عن اللؤلؤ لأسابيع طويلة. وبحسب رواية المالود فإن يوسف كان يتمتع بصحة جيدة ولم يرتد في حياته المستشفى قط حتى فارق الحياة بعد أن أصيب بمرض عضال لم يشف منه.
كل لوحة في مرسم المالود تشي بحكاية من حكايات البحرين، بملامح حي من أحيائها ووجوه حملتها معي وأنا أغادر المركز وأطوف بين الفلل ذات الأسوار العالية والمزارع المترامية الأطراف... أبتعد قليلا فألمح وجه فتاة لها عينان واسعتان وشعر طويل فاحم السواد... جدارية بحرينية وحكاية أخرى من حكايات البحرين.
الموقع
تقع جنوب الجنبية وشمال الهملة، على شارع الشيخ عيسى، التقاء شارعي الجنبية والمزارع. مجمعاتها
تتكون من المجمعات: 1003، 1002، 1001، 1006، 1004. تشكل مساحتها 5,30 كيلومترات مربعة.
تعداد سكانها
تقطنها نحو 1435 نسمة.
مرافقها
في القرية مسجدان، مدرسة ابتدائية بنين - صندوق خيري - مركز شبابي وبعض المشاتل الزراعية. وتضم مركز الجسرة للحرفيين، وبيت الجسرة، وهما من أشهر المرافق السياحية والثقافية في البلاد.
مواعيد زيارة بيت الجسرة
المتحف مفتوح طيلة أيام الأسبوع عدا يوم السبت على النحو الآتي:
- أيام الأحد، الثلثاء من الساعة 8:00 صباحا حتى الساعة 2:00 ظهرا.
- أيام الأربعاء، الخميس من الساعة 9:00 صباحا حتى الساعة 6:00 مساء .
- يوم الجمعة من الساعة 3:00 عصرا حتى الساعة 6:00 مساء .
الشاعر الكبير... «ابن الجَسرة» أحمد بن محمد آل خليفة
شاعر البحرين الراحل الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة، «ابن الجَسرة» الذي تمتع بريادة وجسارة في الإبداع الشعري... توفي يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر مارس/ آذار من العام 2004، وكان معلما من معالم الثقافة والأدب في تاريخ البحرين الأدبي.
ولد في الجَسرة في العام 1929، ودرس حتى المرحلة الثانوية العامة، ثم تلقى دروسا في اللغة العربية على أيدي بعض العلماء في البحرين، مارس كتابة الشعر النبطي، وقد انطلقت من الأشعار الحماسية الوطنية التي تفاعلت مع الحس القومي والوجدان. وكانت البيئة دائما وما تمثله من تجارب ودروس، هي المادة الخصبة لشعره، وقد صور ذلك في أشعاره المتميزة عن تجربة الغوص وقصائد الطبيعة في إطار شعراء الرومانسية.
انتقل إلى قرية الزلاق وعمره ثلاث سنوات لينشأ ويعيش طفولته وصباه هناك حتى العام 1951. وحين بلغ الـ 23 من العمر انتقل إلى القضيبية ليبدأ من هناك أولى مراحل عمره الأدبي.
ويعتبر الشيخ أحمد من طليعة شعراء البحرين المعاصرين الذين خلدوا البيئة وحوادث المجتمع في قصائد إنشاد شعري رائع. وأصدر عددا من الدواوين الشعرية، منها عدة مجموعات في ديوان واحد باسم «العناقيد الأربعة» - «القمر والنخيل» - «بقايا الغدران» - «غيوم في الصيف» و «هجير وسراب». وكتب الشعر منذ وقت مبكر من حياته، ونشر بواكير نتاجه الشعري في مجلة «المستمع العربي» التي كانت تصدر من لندن أثناء الحرب العالمية الثانية، وذلك في عدد نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1951، كما نشر مجموعة من قصائده في مجلة «المجتمع العربي» المصرية، ثم في الصحف المحلية مثل «صوت البحرين» و «القافلة» و «الخميلة» حتى أصدر ديوانه «أغاني البحرين» العام 1955. ومن أشعاره:
شراع تاه في عرض البحار
كما طيف يهيم بلا قرار
يسير على العباب ولا يبالي
بما يلقاه من هول البحار
ترف عليه أرواح نشاوى
بسكر الدر لا سكر العقار
عماليق لهم في كل بحر
حكايات تسطر بالفخار
ثم يختمها بهذا البيت الذي يلخص غرض الفخر في القصيدة كلها:
فيا وطني سلمت مع المعاني
على الدنيا ودام بك افتخاري
ومن قصيدة «حرفة الأدب»:
داع دعاني لركب الشعر والأدب
منذ كنت غرا مع الأتراب واللعب
تفتت لقوافي الشعر من صغري
مداركي فأتاني الشعر بالنصب
العدد 2181 - الإثنين 25 أغسطس 2008م الموافق 22 شعبان 1429هـ