العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ

نظرة عجول البحر

هل تشعر بالغربة في أوروبا الشرقية أيضا؟

بالنسبة لي، أوروبا الشرقية تبدو أشبه بمنطقة جامبتولا الريفية قرب مدينة ريميني، والتي عاشت فيها جدتي. الطريقة الروسية في تقبيلك والإمساك بك باليدين قبل الترحيب بك، كانت تبدو لي دوما علامة لذلك الإحساس الديني القروي الذي كنت أتنفسه في بيت جدتي خلال أسبوع الآلام (الذي يسبق الفصح)، إضافة إلى رائحة حلويات معينة.

عندما تواجدت في روسيا كنت واعيا بشكل خاص لهذا الإحساس بالوجود المسيحي الذي يجد صداه في تولستوي أكثر من ماياكوفسكي. إنه يعيد ذكريات عن حياة مؤطرة بين الأرض والسماء، موسومة بفصول منضفرة وطويلة، ومحلاة بنكهات وروائح أزمنة سابقة... ذكريات من طفولتي وحواسي مبتهجة بكل الأشياء من حولي، والناس والنباتات والأشجار وعبق البيوت... تلك الأبعاد، حيث في الفجر، تربط الإنسان بالأرض، بالتغيّرات في الجو، بالغيوم، بالإحساس بالأخوة، بشعائر محدودة، بالعودة إلى العطل أو الأعياد، بالعرفان بالجميل تجاه شخص أهداك تلك الأشياء. من الطبيعي أن قسما عريضا من تلك الأفكار تنشأ أيضا من الأدب.

إيفتوشنكو، الشاعر الروسي الذي التقيت به للمرّة الأولى خلال العرض الأول لفيلم «ثمانية ونصف» في مهرجان موسكو، على الفور بدا مثل أي صديق من أيام الدراسة. ما إن عرّفوني إليه حتى أحاط بنا الصحفيون والمصورون، وكل شخص ينتظر منا أن نقول أشياء هامة. المترجمون تعلقّت أسماعهم وأبصارهم بكل كلمة قد تصدر منا، لكننا لم نعرف الأشياء المناسبة التي ينبغي قولها والتي قد تكون لها أهمية تاريخية حاسمة.

الواحد منا أحب الآخر، هكذا ببساطة. وبعد سنوات، قام إيفتوشنكو بزيارتي في فريجيني. هناك تحدثنا معا مثل صديقين قديمين. وقد تعلـّم اللغة الإيطالية في ثلاثة أيام.

ذات ليلة، على الشاطئ، روى لي ما حدث في جرينلاند ذات أمسية شتوية -واحدة من تلك الأمسيات التي تدوم ستة شهور- حيث قام شخص من الإسكيمو يمتلك آلة عرض سينمائية داخل سفينته التي تمخر عباب المياه الجليدية، وعرض عليهم فيلمي «ليالي كابيريا». الحاضرون استمتعوا بالفيلم وتفاعلوا معه... حتى الدببة القطبية.

ثم قال شيئا جميلا أتذكره دائما كلما فكرت في إيفتوشنكو... قال لي أن الفقمة (عجل البحر) لها نظرة حنونة ونديّة مثل نظرة زوجته. لا أعرف ما إذا كان هذا التشبيه يسرّ المرأة... أن تسمع من زوجها أن لها عينين مثل عينيّ فقمة، لكن منذ ذلك الحين صرت أنظر إلى عجول البحر على نحو مختلف. وذلك حقيقي: إن لها عيونا جميلة جدا تتصف بعذوبة مقلقة والتي تجعلك تشعر بالذنب.

فيما كنا، أنا وإيفتوشنكو، نتمشى على طول الضفة، سبقنا بمسافة أصدقاءنا الذين كنا نسمع أصواتهم خلفنا في الظلام. الصيف لم يبدأ بعد. وكانت ليلة جميلة، باردة باعتدالٍ بعض الشيء، وفجأة بدأ إيفتوشنكو في خلع ثيابه ويتعرّى إلا من سروال تحتي فيما كان يلقي شعرا، وبلا إشعار رمى بنفسه في المياه وسبح حتى غاب عن بصري. عندما وصل الآخرون وعلموا بالأمر شرعوا في توبيخي ولاموني لأني سمحت له بفعل ذلك. ثم أخذوا ينادونه لكننا لم نر أمامنا غير الظلام الدامس، وبضع ومضات بعيدة، وامتداد هائل للمياه تتمازج مع ضوء النجوم.

ما الذي ينبغي علينا فعله؟ نتصل بخفر السواحل؟ السفير الروسي؟ خروتشيف؟... أحد الأصدقاء بدأ يبكي ويندب قائلا: «كان شاعرا عظيما»... في الواقع، كنا جميعا نفكر في ما هو أسوأ، لأن ساعة مرّت منذ اختفائه. قررنا أن ننظم فرق انقاذ، لكنه أخيرا بان خارجا من الظلمة على طول الضفة. لقد عاد سباحة، وعندما خرج من المياه، أراد أن يعرف رأيي في أيهما الشاعر الأعظم: توركواتو تاسّو (كبير شعراء إيطاليا في أواخر عصر النهضة) أو لودوفيكو أريوستو (شاعر وكاتب مسرحي إيطالي من عصر النهضة أيضا)... يا له من شخص رائع وبهيّ! رفيق طفولة حقيقي.

لكن لماذا أخبرك بكل هذا ردا على سؤال عمّا إذا كنت أشعر بارتياح أكثر في أوروبا الشرقية؟

لقد تعوّدنا في إيطاليا على التضحية بحريتنا، ولا أظن أن لدينا الطاقة أو الصبر لاحتمال البلادة المخزية والحماسة الرقابية التي يتسم بها النظام الشيوعي.

عندما أرادوا عرض فيلمي «أماركورد» (أنا أتذكر) في روسيا، دعيت إلى السفارة السوفيتية في روما لتبادل الحديث. كان هناك كافيار، فودكا، ووزير لطيف ومهذب لكن لا سبيل إلى فهمه أو النفاذ إليه. لقد أراد هذا الوزير مني أن أوافق على حذف لقطات من الفيلم. لم أفهم السبب، ولم أعلم أي اللقطات يرغبون في حذفها. بالطبع عارضت ذلك.

قال المترجم: «الوزير يسأل لم تريد أن تحرم الشعب الروسي من مشاهدة فيلمك؟»... قلت له: «حقا لا أريد ذلك. على العكس، سأكون سعيدا لو عرض فيلمي في الإتحاد السوفيتي». المترجم نقل كلامي، أصغى إلى الوزير ثم استدار نحوي قائلا: «إذن يجب أن تحذف المشهد الذي يدور في دكان التبغ»... فسألت إذا كان الوزير نفسه منزعجا وقلقا من منظر ثدييّ المرأة البائعة... المترجم الذي ارتبك قليلا، ترجم كلامي ثم سارع ليطمئنني: «لا، أبدا»... الوزير أيضا هزّ رأسه كما لو يريد تطميني، وعلى وجهه تعبير رزين. سألت: «إذن هل لي أن أعرف، لماذا يعتبر الجمهور الروسي مختلفا عنه؟ إذا كان ذلك مناسبا لشخص مثله فلابد أن يكون مناسبا لآخرين...

استمر النقاش بتلك الطريقة فترة من الوقت، والمترجم يزداد حرجا وارتباكا في ترجمته لأقوالي، والوزير يلحّ على أن ليس من حقي أن أحرم الشعب السوفيتي من متعة مشاهدة فيلمي.

في النهاية غادرت حاملا معي الهدايا من الفودكا والكافيار، وابتسامات كل شخص هناك مع توكيدات على مشاعر التقدير والإعجاب. لكن عرض «أماركورد» في روسيا بعد بتر المشهد الذي يدور في دكان التبغ، وأيضا المشهد الذي فيه يمارس الفتيان العادة السريّة في سيارة قديمة. هكذا، لم يحرم الشعب الروسي من فيلمي بل من بعض قيمته. ذلك الجانب الفاشستي، المقيّد، الرقابي - الأكثر من كرسي الاعتراف والأكثر ظلامية من الكنيسة- يجعل من الاتحاد أمرا مستحيلا.

هل واجهت قط أية مشكلة مع الرقابة الإيطالية؟ أذكر أن فيلمك «ليالي كابيريا» أثار احتجاجات عديدة لدى الدوائر الكاثوليكية...

الرقابة منعت عرض الفيلم وأنا خشيت أن يحرقوا النسخ السالبة، لذلك امتثلت لنصيحة صديق يسوعي، مثقف، أقل صرامة في ما يتعلق بأعراف الكنيسة، هو الأب أربا. هكذا قمت بزيارة كاردينال شهير في جنوا، ويعد من الشخصيات البارزة والقوية ضمن السلطة الدينية، ورجوته أن يشاهد الفيلم ليحكم بنفسه.

في غرفة عرض صغيرة تقع خلف المرفأ، وفي وسط الغرفة، وضعت كرسيا كنت قد اشتريته قبل يوم من تاجر يتعامل مع الأشياء الأثرية، والكرسي يشبه عرشا بفخامته والوسادة الحمراء الكبيرة والحواشي الذهبية. بعد منتصف الليل بنصف ساعة، وصل الكاردينال بسيارته المرسيدس السوداء.

لم يكن مسموحا لي أن أمكث في غرفة العرض، لذلك لم أعرف ما قيل هناك، وما إذا رجل الكنيسة الرفيع قد شاهد الفيلم كله أم أنه استغرق في النوم بعد بضعة مشاهد. الأرجح أن الأب أربا كان يوقظه في لحظات معينة عندما تكون هناك لقطات لمواكب أو لصور دينية. وفي النهاية قال: «المسكينة كابيريا، يتعين علينا أن نفعل شيئا لأجلها»!

شخص ما اتهمني علانية بأنني أشبه ريشيليو الذي، بدلا من مواجهة خصمه على أرض مكشوفة، يتآمر عليه من وراء الكواليس. لحسن الحظ في تلك الأيام كان لدينا ما يشغلنا ولم يكن عندنا وقت نبدده في المهاترات.

في النهاية تم إنقاذ الفيلم، لكن بشرط استثنائي واحد أعلنه الكاردينال: حذف المشهد الذي يتضمن رجلا يحمل كيسا.

وما الذي يحتويه هذا المشهد؟

ذلك الجزء من الفيلم استوحيته من شخصية رجل غريب وملفت ورائع، كنت قد أمضيت معه ليلتين أو ثلاث ونحن نتجول ونهيم في أنحاء روما. كان رجلا محسنا محبا للخير، ساحرا إلى حدٍ ما، والذي بعد أن مسّته الرؤيا كرّس نفسه لمهمة خاصة: كان يجمع المحرومين من أكثر بقاع المدينة غرابة ويمنحهم الطعام واللباس مما يحمله معه داخل كيس... كان يفعل ذلك يوما بعد يوم.

معه شاهدت أشياء بغيضة ويصعب احتمالها. برفع غطاء أحد المجاري، حيث لا ينبغي أن يكون هناك إلا الوحل والفئران، كنا نجد امرأة عجوزا نائمة. في دهاليز مبنى ضخم، حيث موقع الحزب الاشتراكي الآن، ينام المتشردون الذين لا مأوى لهم حتى الساعة الخامسة صباحا، سرّا وبتواطؤ من الحارس الليلي الذي يسمح لهم بالنوم هناك. الرجل ذو الكيس يعرف كل تلك الأماكن. كان يهب الطعام، وحتى الحقن، في مكان أو آخر.

في الفيلم تخيلت أن كابيريا تلتقي به أثناء عودتها إلى البيت مع بزوغ الضوء الأول من الفجر، متذمرّة لأن زبونا حقيرا احتال عليها ولم يدفع لها. هي ترى الرجل ذا الكيس يترجـّل عن دراجته ويتجه نحو مقالع الحجارة، يتوقف عند حافة ما يشبه الهاوية وينادي امرأة باسمها: مومس عجوز كانت كابيريا تعرفها عندما كانوا يطلقون عليها لقب «القنبلة الذرية». إنها تخرج من ذاك الوادي الضيق الشديد الانحدار، في وضع بائس ومزر، وقد صارت تعيش حياة خُـلد وليس حياة بشر.

بعد ذلك، تقبل كابيريا أن يوصلها إلى البيت هذا الرجل ذو الكيس، شاعرة بالتأثر للقصص التي يرويها. إنه مشهد محرّك للمشاعر، لكن كان عليّ أن ألغيه بناء على أمر الكاردينال. واضح أن دوائر كاثوليكية معيّنة تشعر بالقلق والانزعاج من فيلم يوجّه هذا النوع من الثناء والتقدير لرجل محسن ومحب للبشر، غريب ولم يمسّه تأثير الكنيسة ونفوذها، بل يعمل خارج محيطها.

إذا اضطرت الرقابة، لسبب أو لآخر، أن تلغي قوانينها وتسمح للفنانين بحرية تامة... هل ستحقق فيلما إباحيا (بورنو)؟

الكلمة تنطوي بداهة على معرفة معينة بالسوقية والابتذال. وشخصيا لا أعرف كيف ألبّي هذه الرغبة، إن مدلولاتي الرمزية المعتادة سوف تحوّل العمل نحو وجهة ربما سوف لن تسرّ لا الموزعين ولا ذلك النوع من الجمهور. علاوة على ذلك، لم أجد حتى الآن شخصا يعلن بإعجاب أنه شاهد فيلما بورنوغرافيا جميلا.

الملاحظ أن النسوة اللواتي يظهرن في هذه الأفلام هن بشعات جدا ويجعلنك تشعر كأنك في مشرحة أو فناء للماشية. وأنت تشاهد، تتنفس جو المَبغى هنا، والذي يعني أن فيلم البورنو يجعلك تشعر بأنك تعرف أقل مما كنت تعرفه من قبل، وأنك تشارك في الحط من قدر الطقس الجماعي.

لم تتحدث عن فيلمك «المحتالون» الذي عُرض قبل «ليالي كابيريا»... لم اخترت ممثلا أمريكيا؟ هل المنتج هو الذي فرض عليك اختيار برودريك كراوفورد؟

لقد حالفني الحظ السعيد في العمل، طوال الوقت، مع منتجين أبدا لم يفرضوا عليّ شيئا أو أحدا. إذا حدث بيننا اختلاف في الرأي وفي وجهات النظر، كنا نتوقف عن انجاز المشروع ولا نواصل العمل في شيء يثير بيننا خلافا حادا. وحتى عندما يصل الأمر إلى حد قطع العلاقات، وهذا حدث مرارا، فإن علاقتي بالمنتجين، أولئك الذين أنتجوا أفلامي والذين لم أتفق معهم أو فسخت عقدي معهم، تظل دائما ودودة ومحبة. خلاصة القول، أننا منذ زمن سحيق كنا على نفس الاتجاه من عملية صنع الأفلام، وقد فهم بعضنا البعض بلا أوهام أو خداع.

اخترت برودريك كراوفورد بعد صعوبات جمة في العثور على الشخصية الرئيسية بين الكثير الكثير من الوجوه. ذات مساء وأنا أتمشى في ميدان مازيني، شاهدت ملصقا كبيرا على الجدار لفيلم يشارك فيه كراوفورد، وقد تمزّق الملصق عموديا. نصف وجهه لا يزال معروضا، وتحته نصف العنوان ونصف اسم الممثل. العين الصغيرة في ذلك الجانب من الوجه السمين تذكّرني بذلك التعبير الحاد والخبيث الذي يتمتع به شخص يدعى ناسي، والذي اشتهر في ريميني بعد أن باع رجلا ألمانيا قطعة ممتدة من البحر قبالة جراند هوتيل، أو هكذا قيل لنا عن ناسي المحتال، والذي عندما يسألونه في مقهى كوميرس عن مدى صحة الحكاية أو عدمها، كان يطلب دعوته على الشراب أولا، ثم يلفظ بعض الجمل المستعارة من حكمة شرقية، مثل: «نحن لا نعود نعرف كيف نرى الحقيقة لأننا لا نعرف كيف ننحني حتى نتصل بالأرض». وإذا طلب منه شخص أن يشرح هذه الجملة، يتعين عليه، لكي يجيبه، أن يقدم له كأسا آخر من النبيذ. وهذا الوضع، بين إجابات ناسي الحكيمة المبهمة وأباريق النبيذ، يمكن له أن يستمر حتى فترة ما بعد الظهيرة حيث يغادر مخمورا كليا، هذا الشبيه بعرّاف غامض، متجها نحو الضباب فيما يغني بصوت جهوري.

وجه برودريك كراوفورد! يا له من وجه رائع وهائل!... إنها شهادة حسّية تماما على فن المصور السينمائي. بمجرد أن يرفع حاجب العين، تجد قصة هناك. تلك العينان الغائرتان في الوجنتين الممتلئتين تبدوان كما لو تنظران إليك من خلف الجدار، مثل جحرين في جدار.

المنتج الذي كان قلقا بشأن الشائعات المتداولة عن ولع برودريك بالخمر، أراد إضافة تحذير في عقد عمل الممثل بحيث يشير في صفحة إلى المشروبات المسموح له بتناولها.

الواقع العذري للأشياء

الحياة الحلوة... .

أجيبك فورا، كما في اختبار تداعي الكلمات: أنيتا إيكبرغ! بعد خمس وعشرين سنة من تنفيذ الفيلم، يظل عنوانه وصورته متلازمة مع أنيتا ولا يمكن فصل ذلك عن هذه الممثلة.

رأيت صورتها للمرة الأولى في صفحة كاملة من مجلة أمريكية: نمرة جبارة في هيئة فتاة عابثة جالسة منفرجة الساقين على درابزين سلـّم... وقلت: «إلهي لا تدعني ألتقي بهذه المرأة في أي وقت».

لقد تكوّن لدي ذلك الإحساس المدهش، بالخدر الذي يسبّبه التنويم، بالذهول الذي يشعره المرء عندما يواجه كائنات استثنائية مثل: الزرافة أو الفيل أو شجرة استوائية... هذا الإحساس اعتراني ثانية، بعد عدة سنوات، لما رأيتها تأتي صوبي في حديقة فندق دي لا فيل، يسبقها ويتبعها ويحيط بها من الجانبين ثلاثة أو أربعة رجال قصار القامة، زوج، وكلاء أعمال... وهؤلاء تلاشوا مثل ظلال حول مصدر مطوّق بهالة من ضوء.

أرادت أنيتا أن تعرف تفاصيل السيناريو، وما إذا الشخصية التي ستمثلها طيبة، ومن هم الممثلون المشاركون... كانت تطرح الأسئلة، وهي تحتسي كأسا من الكوكتيل، بصوت طفولي مبحوح والذي يجعلها مغوية بشكل غامر. وقتها بدا لي أني أكتشف الواقع العذري للأشياء، للعناصر، وفي خدر تام قلت لنفسي: «آه، ها هي شحمة الأذن... ها هي اللثّة... ها هي البشرة الإنسانية».

في تلك الأمسية، ذهبت لرؤية مارشيلو ماستروياني الذي أصغى إليّ منزعجا بعض الشيء لكن دون أن يعلن ذلك، بل يستحثني بكلمات قليلة، متوترة إلى حدٍ ما، مثل: «استمر... حقا؟... لكن... حسنا... «ثم يختتم الحديث قائلا بنبرة تتسم بالكياسة واللطف، رافعا حاجب العين مثل كلارك جيبل: «لنذهب ونر هذه السيدة».

أنيتا، بخبرتها العميقة مع الرجال، عندما قدموا لها مارشيلو كي يتعرّفا على بعض،مدّت له يدها وهي تنظر في شرود إلى جهة ما، ولم تنبس له بكلمة واحدة طوال السهرة. فيما بعد، وبينما كان مارشيلو يناقش مسألة ما، تطرّق إلى أنيتا إيكبرغ وقال بأنها ليست ذات أهمية إلى هذا الحد، بل أنها ذكّرته بجندي ألماني حاول ذات مرّة الفرار من الشرطة العسكرية بالاختباء في شاحنة. لقد شعر مارشيلو بالغيظ والانزعاج من ترفـّع أنيتا عليه وتجاهلها له.

فيلمك «الحياة الحلوة» يظل أحد مفاتيح ثقافة وخيال القرن العشرين... بعد أكثر من عشرين عاما، كيف تنظر إليه اليوم؟ إلى أي مدى كنت مدركا آنذاك لعناصره السوسيولوجية؟

بانتظام كنت أضلل الأصدقاء والصحفيين بالقول أن روما التي صورتها في «الحياة الحلوة» هي مدينة باطنية، وأن عنوان الفيلم ليس له أي غاية أخلاقية أو هجائية. العنوان يعني ببساطة أنه بالرغم من كل شيء فإن للحياة عذوبتها وحلاوتها العميقة التي لا يمكن إنكارها.

أتفق تماما مع أولئك الذين يؤكدون بأن المؤلف آخر من يستطيع التحدث عن عمله بدراية تامة. وأنا لا أريد أن أبدو مثل شخص يميل، عبر النزوع الاستعراضي أو التغنّج، إلى التقليل من شأن ما فعله، لكن لم تكن لدي مطلقا أية نيّة محددة لأن أشجب، أنقد، أجلد، أو أهجو. الاعتراض والاحتجاج والغضب... حالات لا أطيقها. أنا لا أتهم أحدا. المشهد الذي يصور الشخصيات البارزة والشهيرة في المجتمع؟ لقد أضفت هذا المشهد أثناء إعادة تصوير اللقطات. استوحيت ذلك من القصص التي رواها لي برونيلو روندي، وهو الضيف الدائم على الحفلات المقامة في بيوت الأرستقراطيين في روما.

طقوس العربدة في المشاهد الختامية؟ لقد ظننت أن بيير باولو بازوليني خبير في هذه الأمور، لذا دعوته ذات ليلة على العشاء، وعندما سألته، اتضح أنه لا يعرف شيئا عن طقوس العربدة عند الفئات البورجوازية ولم يشارك قط في أية حفلة منها، كما لا يعرف أحدا بإمكانه أن يساعدني.

هكذا شرعت في تصوير المشهد دون أن تتوفر لدي أية فكرة عنها. لقد عوّلت على الممثلين، واضعا إياهم في مواقف غير مقنعة من الفسوق والانغماس في الملذات. وكانت تعمل معي مساعدة هولندية، شابة جميلة، لا تفارقني بنظراتها المليئة بالرجاء اليقظ، منتظرة في استثارة أن تراني أصور عملا شائنا وفاضحا. بعد ساعتين من التصوير سمعتها تهمس في خيبة أمل: «فلليني يرغب أن ينفذ مشهدا إباحيا ولا يعرف كيف يفعل ذلك».

لكن فيلم «الحياة الحلوة» هو أكثر من ذلك، إنه يعيّن تخوم مرحلة في الحياة الإيطالية، وقد أصبح رمزها. الفيلم أثار الكثير من المناقشات والمناظرات والجدال... كما أحدث فضيحة...

أدرك أن فيلم «الحياة الحلوة» يشكّل ظاهرة تجاوزت الفيلم نفسه، ليس فقط وراء نطاق منظر الأعراف والعادات التي عكسها الفيلم، بل أيضا بسبب جدّته: كان أول فيلم إيطالي تستغرق مدة عرضه ثلاث ساعات وثلاثين دقيقة... حتى أصدقائي طلبوا مني اختصاره. وكان عليّ أن أدافع عنه بكل ما أملك من قوة. لقد حققته بالطريقة التي بها أحقق كل أفلامي... جزئيا لكي أتخلص منه، وعلى نحو خاص، بدافع الرغبة الملحة والوقحة في سرد القصص.

يبدو لي أن العامل الملهم للفيلم، وتشكيل صوره، نابع من أسلوب الحياة المعروض في المجلات المصورة آنذاك... مشاهد حمقاء بلا معنى تمثـّل الحياة الأرستقراطية والفاشية. كانت المجلات نصور تلك المشاهد وتمجّدها على صفحاتها. كانت -المجلات- المرآة المضطربة لمجتمع، على نحو متواصل، يمجّد نفسه، يستعرض نفسه، يطري نفسه في زهو. إنه يمثـّل إيطاليا الرجعية في القرن السابع عشر، وقد استمتعت بالسخرية منه.

لكن كيف بإمكاني أن أشرح لتلك السيدة العجوز الضئيلة، المرتدية ثوبا أسود وقبعة من القش مزيّنة بالأشرطة. بعد شهرين من عرض الفيلم، انفجرت الفضيحة. جريدة أوبزرفاتور رومانو كانت تنشر يوميا مقالات محمومة وعنيفة ضد الفيلم وصانعه، مطالبة بضرورة سحب موافقة الرقابة على عرض الفيلم، وحرق النسخ السالبة، ومصادرة جواز سفري. ماذا كان يمكن أن أقول لتلك السيدة العجوز الضئيلة التي قفزت ذات يوم من سيارتها المرسيدس الفاخرة، رافضة أن يساعدها سائقها، وانطلقت مسرعة عبر الميدان لتندفع نحوي وتجذب ربطة عنقي، صائحة في وجهي بغضب عارم: «كان ينبغي أن تربط صخرة حول عنقك وتغرق نفسك في قاع البحر بدلا من أن تثير فضيحة كهذه».

و بمساعدة السائق استطعت أن أعيدها إلى سيارتها، مقدما لها اعتذاري، مع أني في الحقيقة شعرت بضيق وانزعاج يماثل ذلك الذي شعرت به بينما كنت أتمشى وحيدا في بادوا ظهيرة أحد أيام أغسطس وشاهدت على باب كنيسة ملصقا هائلا بحاشية سوداء مع كتابة: «لنصلي من أجل تخليص روح فدريكو فلليني... الخاطئ جهارا».

لمواجهة واقع حياتنا، لفهم لحظتنا التاريخية... هذا يُعد -بوجه عام- واجبا أخلاقيا... هل هو كذلك بالنسبة لك؟ ما الذي تراه في العالم الذي نعيش فيه؟

أنا لا أعوّل على الآراء... أرفضها على الفور. دائما يبدو لي أنها مهمة غير مجدية، ميئوس منها، تقديم تصورات سياسية مبنية على أحداث وتشخيصها. أنا لا أملك أدوات قياسية ولا الحماسة لامتلاك ذلك. أنا مدرك أن موقفي هو موطن ضعف طفولي، هو أحد عيوبي، لكنني لا أرى نفسي ممتلكا النضج الفكري، أو الموضوعية، أو الحدس الملفت والضروري لفهم ما يوجّه المجتمع وبواسطة أية متاهات مبهمة وصل هذا المجتمع إلى طرق مسدودة غير نافدة. لا أعتقد أن العالم موجّه بواسطة دماغ خارق نبوئي وغامض. أخشى أن العالم ينساق وينجرف فحسب. ربما ذات مرّة كانت هناك خطة والتي صارت منسية منذ ذلك الحين، مثلما حدث مع خطة الكنيسة لتخليص الجنس البشري.

في البدء كانت الكلمة حتما، لكن منذ ذلك الحين تم تركيب شبكة من الحرّاس والشعائر التي جعلتنا ننسى ذلك. متاهة الطقوس وحدها هي التي بقيت، دون أن نعود نتذكـّر المدخل والمخرج أو حتى كيف نتحرك بداخلها. ربما علينا فقط أن نتحرك، بطريقة أو بأخرى، بحيث نحوّل ألمنا المبرح إلى غذاء لنا وللآخرين... هذا يعلل فتنة روايات كافكا وبورخيس.

أولئك الذين ليسوا مثلي، الذين ليس لديهم نظرة علمية للأشياء، ولا يقيسون التقدّم بلغة المنطق، يكرّسون أنفسهم تقريبا للأحلام السارة أو لعقد الذنب القاتمة والتي تكشف، خلال الحياة اليومية، كما نعتقد، الإشعاع المبشّر به في رؤيا القديس يوحنا أو في نبوءات نوستراداموس.

الإغواء الأقوى هو أن تقول بأن المستقبل قد سبق أن انقضى. ربما لأنني قرأت الكثير من قصص الخيال العلمي. لكن أنا أيضا شاركت أحيانا في العدوان الأحمق وتقاسمت الأنانية البغيضة، التي تتفشى في الجنس البشري أثناء تدميره للموارد الطبيعية في كوكبنا. المشهد فاجع وكوارثي، لكنني أقبله من وجهات نظر مختلفة، لأنني -كمخرج سينمائي- أجده مغريا، وكذلك بسبب المضايقات المستمرة من قِبَل الكاثوليكية التي تحملناها لمدة 2000 سنة. علاوة على ذلك، فإن تقديم مبرر واهٍ لعملية التقدم هو أمر غير كاف... إنها مسألة تعصّبٍ وأنانية. هناك رغبة في ركوب سفينة نوح أخرى والسفر بها عبر مركز الكارثة مع عدد ممن تم انتخابهم من البشر والحيوانات.

لكن، في نظرك، ما هي مسئولياتك؟

المسئولية الوحيدة التي أشعرها هي أن أتجنب «الاقتراب أكثر مما ينبغي»، أن أتجنب الحميمية، والتي هي نتيجة مباشرة للغباء والجهل. الاقتراب حالة إيطالية نموذجية، موقف سيكولوجي كنا دائما نرعاه ونستمتع برعايته. نحن دوما نفترض أنه مورد، ملاذ، شيء في الجينات يحسدنا عليه الآخرون. لكنه تقريبا ليس غير استسلام مثير لمزيج من الشفقة والسخرية، من أجل البقاء على قيد الحياة فحسب... ذلك كل شيء. أشعر بمسئولية تفادي الخداع والتضليل، أن لا أكون قانعا بما عندي. أحتاج أن أشهد على التعقيدات التي أجدها بواسطة التطبيق الصارم لتلك الأداة التعبيرية التي تحت تصرفي. لا يجب أبدا مجرد الاقتراب أكثر مما ينبغي. ولا يجب أن ننسى بأن التعبير الفني أيضا له جانب هزلي فيما يقترح رؤية للأشياء، فيما يشاطر الآخرين لحظة طيبة أو سيئة، فيما يرحّب بالخيال داخل اللعبة.

في وقت مثقل بالالتباس والخوف، رفْع أعيننا عن الأعماق، عن العملي واليومي، يجعلنا نشعر بالذنب من استمتاعنا بالرفاهية أو الانحراف. عوضا عن إيجاد الإحساس بالحرية، ثمة من يجعلنا نشعر أن حتى استخدام الوقت الحر لابد أن يكون إلزاميا... بتلك الطريقة، يصبح وقتا خاويا لا يتصل أبدا بذات المرء ولا بالحياة.

نحن لدينا مساحة تزداد صغرا للتأمل الجمالي، المفهوم بالمعنى الإغريقي كنزوع إلى حب الجمال. الجمال يبدو أقل تضليلا وإغواء لو بدأنا في الاعتقاد بأن الجميل هو كل ما يستدعي شعورا مستقلا عن القوانين الراسخة. كيفما كان بلوغنا إليه، فإن المجال العاطفي يحرر طاقة هي دائما إيجابية، سواء أكانت من وجهة نظر أخلاقية أم جمالية

العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً