العدد 119 - الخميس 02 يناير 2003م الموافق 28 شوال 1423هـ

تجديد الجدل بين المعرفة العلمية وبحث الإنسان عن معنى

الغزالي مُتَرجما للإنجليزية...

يُعد أبوحامد محمد الغزالي (1085 ـ 1111م) عالما جليلا ووليا للإسلام التقليدي الذي كتب وتحمل تأليف «اللاهوت الحقيقي»، «الفلسفة»، «القانون والتصوف في علوم الإسلام الشاملة». ومع ذلك، فإن طرق الانسجام والتوافق مع هذا العالم مرصوفة بحصى كبيرة من التسوية والاسترضاء والحصول على نصف الخبرة بواسطة أولئك الذين يطلبونها كاملة نادرا ما يكون مُرضيا. وادعى ابن رشد، الخصم اللدود للغزالي، والذي وُلد بعد وفاته أن «أبوحامد لا ينتمي لأي فرع معين من المعرفة في أعماله ولكنه أشعري عندما يكون مع الأشعريين، وصوفي حينما يلاقي المتصوفة، وفيلسوف حين يكون مع الفلاسفة».وتصعد هاتان الترجمتان الجديدتان ذواتا النصوص المتباينة والمتضاربة الشكوك مرة أخرى عن وحدة وتماسك تعاليم الغزالي، أي ما إذا كان كل الفهم الهادف لأعماله قد قدم لبناء نظام ميقاتي، أو ما إذا كان مذهبه «الحقيقي» قد اكتشف فقط في بحوثه المقصورة على فئة قليلة.

ومهما تكن هناك من متاعب أكاديمية لحل هذه الجدليات، لا شك أن إعادة إصدار هذين الكتابين، المشهورين ولكن المروعين، في مجموعة علمية يعد حدثا متفردا ويمثل مصدر سعادة ورضا لكل طالب فلسفة إسلامية وتصوف.

وفي الواقع، تمتد علاقة نقد الغزالي البناء للبديهيات الميتافيزيقية أو للمسلمات الفلسفية إلى ما وراء حدود اللاهوت الجدلي في القرون الوسطى، إذ نسب لها تاريخيا، كما وصل إلى قلب النقاش المعاصر عن صدقية وأيديولوجية العلمية إلى السؤال الشائك عن العلاقة بين المعرفة العلمية والتي تُعد بسبب طبيعتها التجريبية الجادة مختزلة، وبحث الإنسان عن معنى، إذ لا يمكن أن تجنب أسئلة الوحدة الكاملة والجوهرية «غير العلمية».

وقبل مناقشة محتويات هذين الكتابين، نعطي هنا نبذة مختصرة عن المشروع الأكاديمي «الحكمة: سلسلة ترجمة إسلامية»، أعتقد أنها لم تصدر من دون رغبة واهتمام لقراء هذه النشرة. فقد صممت «سلسلة الترجمة الإسلامية: الفلسفة، علم اللاهوت، والتصوف» وفقا للغة رئيس تحرير السلسلة، برويز مورويدج، لمزيد من الثقافة في الدراسات الإسلامية، ولكن عن طريق تشجيع ترجمة النصوص الإسلامية إلى اللغة التقنية للثقافة الغربية المعاصرة، وللمساعدة في دمج الدراسات الإسلامية في الأكاديميات الغربية ولتطوير منظور عالمي في فروع المعرفة التي تخصص من أجلها. وإذا ما تم الحصول على هذا الهدف، فإنها لن تكون المرة الأولى: إذ يعلم المؤرخون أنه أثناء ما يسمى بالعصور الوسطى، دخل جزء من الثروة الفلسفية والعلمية والحسابية للثقافة الإسلامية وأثرى الغرب كثيرا. حتى اللاهوت المسيحي تأثر بذلك، وهو ثابت وبتألق في كتابات سانت توماس اكويناس وعلماء آخرين.

وبرعاية مشتركة من معهد الدراسات الثقافية العالمية، وجامعة برنجهامتون، وجامعة نيويورك الحكومية، وتحت إشراف علي المزروعي، ظهر مشروع «الحكمة» بدعم عدد من العلماء البارزين يتضمنهم بعض العلماء المسلمين. ومع ذلك، ومن خلال الحكم على هذين الكتابين «تهاتف الفلاسفة»، و«مشكاة المصباح» اللذين ترجما وقدما بواسطة العالم المتمرس في الفلسفة الإسلامية، ميشيل مرمرة، والطالب الشاب الواعد، ديفيد بوشمان، فإن أية مساهمة إسلامية مهمة في هذه المحصلة الأكاديمية ـ مثل تمويل السلسلة نفسها ـ لم تُطرح بعد. مثل هذه المجلدات المنتجة علميا، وذات النصوص الثنائية اللغة، إذا ما رأت النور، بالتأكيد ستكون مصدرا لطموحات عظيمة للجميع.

وهناك قليل من الشك في أن «تهافت الفلاسفة» قطعة من اللاهوت الجدلي المعقد للغاية، ونص أصيل مثير يحتل تخوم الفلسفة وعلم اللاهوت ما يشكل أكثر من حجة عقلية قوية للإيمان التوحيدي في فترة العصور الوسطى. ولا عجب، أن يصبح مصدر إلهام حتى لمناصري التقاليد الإبراهامية الأخرى.

الادعاء الرئيسي لاعتذار ميمونايد العظيم لليهودية «دليل المتحير»، بأن إله الإيمان الديني يمتلك الإرادة المطلقة في تسيير ما لم يشأ أن يفعله توافقا مع نظام الطبيعة، وإله الفلاسفة الأرسطوطالسيين، الذي عجز بواسطة ثبات هذا النظام الطبيعي، «مدين»، وفقا لمترجم ميمونايد الحديث، شلوموباينز، كثيرا للغزالية. وبالطبع، لا جدل أن حجة الغزالي ـ والتي بالتأكيد لا تفسر بأنها ضد الفلسفة ـ مستوطنة في العالم الفكري للمنطق والقياس الأرسطوطاليسي. إنه أيضا «عصري» في نفاذ بصيرته، إذ أن المزاعم المعينة للفلسفة الأولى لا تمثل شيئا سوى معتقدات دوغماتية لعلم الكونيات الوهمي والذي لا يمكن إثباته، ومحاولة غير فلسفية لإضفاء معنى للوضع الإنساني من نقطة استشراف «كلية» للعالم الأبدي اللامتناهي. لذلك، هناك أكثر من سبب للتوافق مع رئيس تحرير هذه السلسلة بأن كتاب الغزالي المتطور هذا يحتاج إلى أن يُنفض عنه غبار رفوف العصور الوسطى وتقديمه في قاعة النقاش العصرية. وبتتبع بصيرة الغزالي، تظهر حتى المحاولات بواسطة الفيزياء الحديثة لإحداث كوزمولوجيا، وتكوين وصف موثوق كلي بواسطة نظرية الأصل، زائفة وغير علمية. «كوزمولوجيا» الفيزياء الافتراضية، مهما يكن ادعاؤها في التفكير القياسي، ليست سوى أيديولوجية.

وتُعد ترجمة مرمرة نيرة وبتفوق وسهلة القراءة. وإذا كان هناك أي اعتراض عليها، فإنه يكون عن شفافيتها المفرطة والتي توحي بتقمص عاطفي زائد مع الوعي الحديث. «الدهرية» مثلا، تُرجمت بالانسجام مع الاستخدام المعتمد بواسطة المترجم الأول، فإن دين بيرغ، على أنها تعني «الماديين». بينما هذا الاختيار ربما نظريا وفلسفيا يُعد موثوقا به، فالترجمة الأدبية للمصطلح ستكون «الزمنيين أو الدنيويين».

ويعتقد أن التكيف الحذر بواسطة المؤلفين المسلمين مع هذا المصطلح يشير، مع ذلك، إلى أن ازدواجية «الروح» و«المادة»» فُهمت على أنها تناقض «للزمن» و«السمو». ووفقا لذلك، فإن الوعي الإسلامي لا ينتقص من شأن «المادة» ولكن يعارض الحجة العدمية للدهريين والذين، كما هو حال أنصار المذهب النسبي، لا يرون قيما ما وراء وخارج الزمن والتاريخ. وأثر النعت الإسلامي لمذهب «النهلستية» بأنه «كالدهرية» أيضا في قلب التنوع الفلسفي والميتافيزيقي للعلمانية الحديثة والتي تعد تاريخية وحلولية. وكما هو متوقع، قام مرمرة بخدمة جليلة ليس فقط للمجتمع العلمائي ولكن أيضا لكل محبي الغزالي والنقاد المحتملين من ذوي تفكير حركة التنوير الفلسفية. ولا تعد ترجمته بليغة ومرضية للغاية فحسب ولكن تعليقه أيضا يعوزه الجدل غير المبرر والنظرية الأوروبية المتعالية تجاه السلف الشرقيين، ووجود النص العربي الموازي في حد ذاته يعد هبة حقيقية إذ أنها من المحتمل أن توفر لكثير من القراء مدخلا إلى التعقيدات وجماليات اللغة العربية القديمة نفسها.

أما «مشكاة المصباح» فهو كتاب ذو طبيعة وأسلوب يختلفان على حد سواء. وهو يُشكل فكرا ذا معنى روحي وتفسير مقصور على آية النور القرآنية المشهورة (آية النور: الجزء 24، رقم الآية 35) والحديث النبوي الشريف ذي العلاقة بالآية، والمعروف بـ «حديث الخمار». وأوضح الغزالي معناهما، وفقا للمترجم بواسطة تكوين ميتافيزيقيا النور ـ وتتضمن وجود ونظرية معرفة ـ والنظم الكوزمولوجية والنفسية المتعلقة والمرتكزة على هذه الميتافيزيقيا. لذلك، تناقضا مع انتقاداته للادعاءات البدهية للفلسفة، والتي تظهر كوزمولوجيا، عرض الغزالي وجهة نظر شاملة وكوزمولوجيا ـ طريقة لإعطاء معنى للحقيقة على رغم تقديم علم الكوزمولوجيا وعلم النفس ـ مستمدة من الوحي القرآني. هذا النص المختصر عن ميتافيزيقيا النور، المليئ بالجمال الروحي والإشراق الصوفي الذي يعد جوهر الأدب الصوفي وبهذه المكانة يستنبط منه تفكيرا تقليديا وتفسيرا عصريا. ووضع بوشمان، بواسطة ثقافته الوافية الجميع من علماء وباحثين تحت الإقرار بفضله. وربما أن أحدا لا ينسى أن محبي الصوفية سيكونون سعيدين بظهور هذه الطبيعة الثنائية اللغة والتي تمثل نصا رئيسيا للتصوف الإسلامي.

ويعكس هذان الكتابان العظيمان الجانبين المتضادين المزعومين في شخصية الغزالي. في أحدهما، يرفض الغزالي ـ على أساس المبرر نفسه ـ ادعاء السبب لتوفير وصف «كل شيء ملموس»، وفي الآخر يكتشف هو نفسه، من نور الوحي القرآني، مصدرا للمعنى الكامل والحقيقة. وإذا كشف هذان الجانبان توترات وتناقضات، فإنهما قد أثرا كذلك بالفعل داخل روح إنسانية انتقادية وإبداعية

العدد 119 - الخميس 02 يناير 2003م الموافق 28 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً