ثمة تحول مهم في السنوات الأخيرة طرأ على شهر رمضان المبارك وطبيعة هذا الشهر وسلوكيات الناس فيه. هذا التحول بدأ تحديدا مع بدء الفضائيات العربية، وعزز منه هذا الكم الهائل من القنوات المتنافسة فيما بينها، وما تنتجه وتعرضه من برامج طيلة الشهر الفضيل.
وجود الفضائيات بزخمها الكبير، وما تقدمه من ثقافة بصرية ذات أثر واضح على المتلقين، صاحبه من جهة أخرى تغير في أنماط السلوك وطبيعة التفكير، وتغير مهم في مفاهيم وقيم عدة كانت لسنوات خلت من المسلمات والضرورات، بدءا بمفهوم الحقيقة ونسبيتها، والإسلام وتعدد قراءاته، والشباب وطبيعة تفكيرهم، والحجاب وحرية ارتدائه وتطور أشكاله، وغيرها من الموضوعات الكُثر، التي تبدلت النظرة لها جراء التداخل العولمي في الأفكار والسلوكيات، وما تمارسه الأفكار الحديثة من سطوة ليس في وسع المسلمين مقاومتها، أو خلق بدائل لها.
هذه الفضائيات العربية، كان لها دور مهم في إحداث هذا التغير في البنى السلوكية والمفهومية، كونها الأداة التي استخدمت في بث الأفكار، وتعميم السلوكيات وأنماط الموضة والموسيقى والترفيه... وهي بذلك لعبت دورا أكبر مما لعبه المثقف العربي أو القوى الفاعلة العربية، لسبب مهم هو أن للصورة «سطوتها» وتأثيرها على «لا وعي» المتلقي، بحيث تصبح جزءا من تفكيره من دون وعي منه في كثير من الأحيان، متسربة لدواخله شاء أم أبى.
هذا التغير الحاصل أفضى إلى حال أشبه بالتيه، أو إلى حال أصبحت فيها الذات تحمل الشيء ونقيضه، بل تحمل عدة مكونات ينفي كل منها الآخر، خالقة ذواتا جديدة تشكل أمزجة وسلوكيات وأنماط تفكير متباينة، من دون مقدرتها على أن تحقق ذاتها وإرادتها الشخصية كما تريد لها أن تكون.
بالعودة إلى رمضان، والذي يشكل مثالا بيِّنا على حال التناقض هذه، نجد الفضائيات العربية تستخدم لعبة الأقنعة، مرتدية قناعا تلو الآخر، ومغيرة جزءا مهما من برامجها، لتتجانس وطبيعة هذا الشهر وما يفرضه من التزامات. فتجد فضائيات عربية تتنقل طوال العام بين برامج الترفيه الإيروسي، أو ما بات يعرف بـ «الكبريهات الفضائية»، فإذا أتى شهر رمضان تجدها تنقل صلاة المغرب من الحرمين المدني أو المكي، وتستبدل الراقصة «المغناج» بشيخ «مكفهر الوجه»، يحذر من عذاب الآخرة! هذا التحول تراه طيلة شهر رمضان، وما أن ينتهي الشهر الكريم، حتى ترجع صبايا «الستربتيز»، ويغيب الشيخ بوجهه «المكفهر»!
هذه الجدلية في العلاقة التناقضية بين الحال ما قبل وفي «رمضان»، تزداد تعقيدا عندما تتمظهر على الشاشة الفضية في الشهر ذاته، لتدخل في حال من الازدواجية الفضائية، لتبدأ يومك عند فترة الإفطار ببرامج دينية، أو نقل حي للصلاة، أو مسلسل اجتماعي يتناسب والأجواء الرمضانية، وما أن تنتهي هذه الفترة، حتى تطل عليك مذيعة الربط معلنة «أحلى الرقصات بمناسبة الشهر الفضيل»، وتبدأ فقرات الليل مع «الرقص الشرقي» وحفلات الغناء، وسواها من البرامج التي تتناسب والأجواء الليلية، التي تمتد إلى صلاة الفجر، لتعود بعدها الفضائيات معلنة توبتها وإنابتها لربها، فالحسنات يذهبن السيئات!
إن المشكل لا يكمن في أن تعرض الفضائيات «الرقص الشرقي»، أو برامج الترفيه الهابطة، بل المشكل فيما تخلقه من تناقض وحال مشهدية تؤثر على المتلقي، خالقة منه ذاتا مشوهة متناقضة مع نفسها، فهي من جهة متهجدة طوال النهار، وراقصة طوال الليل.
إن هذا التناقض وآثاره السلبية على ذوات وسلوكيات المتلقين لا يمكن له أن يحل من دون أن تعي الفضائيات مدى ما لها من تأثير نفسي كبير، وكيف أنها بهكذا سلوكيات، ستخلق جيلا عربيا هجينا لا يملك ذاتا مستقلة ولا شخصية واضحة، ومن دون أن تتنازل الفضائيات عن قليل من رأسماليتها المفرطة، واضعة في بالها ما للمواطن العربي من حق عليها، ستظل تمارس غوايتها صانعة جيلا من المتناقضين والمشوهين
العدد 121 - السبت 04 يناير 2003م الموافق 01 ذي القعدة 1423هـ