ترددت كثيرا في وضع هذا العنوان لأنه يشابه عنوان ريبورتاج قناة الجزيرة ليسري فودة (الطريق إلى 11 سبتمبر). والطريق إلى «خليج توبلي» كان وعرا وقاسيا، كأنك ذاهب إلى بيت مهجور. فالشارع غير مرصوف ومهمل كحاله من الشوارع المؤدية إلى سواحل البحرين الأخرى. وأنت تشاهد الخليج من بعيد تندهش لوجود بقعة من المياه الزرقاء الساحرة، تتغلغل بين أطراف البر لتعلن قيام الخليج ومعانقة المدينة. والارتجاجات إلى أعلى وأسفل داخل السيارة التي نقلتني إلى هناك، أيقظتني أن مشكلة خليج توبلي البيئية توغل في ممر ضيق لا ينكشف على ضوء بسبب ما تلمسه من آثار تدميرية صارخة بفعل عمليات الدفان العشوائي والمخلفات التي تشعرك وكأنك بالفعل بين جدران (خرابة).
والملامح التي ترتسم على وجه الشاب حسين العريبي أحد المهتمين والناشطين البيئين، وهو يقود السيارة في عجلة من أمره، توحي أن هناك مصيبة في انتظارنا. واثر ضربة قوية حدثت للسيارة بسبب وجود صخرة مرتفعة وسط الشارع، خفف حسين من سرعته، وكانت نظراته لا تتوقف عن التأمل في «بقايا» الخليج. وألمح - ونحن نقرب من الساحل - وجود طيور غريبة لم أشاهدها سابقا، ومن النادر أن تراها في البحرين.
يقول حسين: «هذه الأرض التي تسير عليها السيارة كانت قبل سنوات قليلة جزءا من البحر ومياهها صافية ونقية». ويشير إلى الأراضي المحيطة بالخليج ويبين أنها أصبحت «أراضي خاصة»، وبمقدور من يملك المال أن يشتري البحر ويدفنه بسهولة، ويعبر عن استغرابه: «لماذا يمنع الأهالي من نعمة البحر والارتزاق منه؟ ما عاد بإمكانهم الاستمتاع بطبيعته!».
وبمجرد وصولنا إلى الساحل، كانت هناك آثار واضحة لعلامات طرية لمخلفات بناء وهدم، وألواح خشبية قديمة مغروزة في البحر، شوهت المنظر الطبيعي للساحل، واختلطت مياه البحر بالملوثات، فما عاد بإمكانك أن تنظر إلى القاع. والمفارقة أن هناك علامة موضوعة من البلدية تأمر بمنع رمي المخلفات وقد استلقت على الأرض.
ويسرد لي حسين ذكرياته الجميلة مع الخليج، إذ كان يأتي مع أصدقاء في سن صغيرة لاصطياد الأسماك والروبيان التي كانت توجد بكثرة، ويقضي وقتا ممتعا في مشاهدة الطيور المتنوعة، أو الذهاب في رحلة إلى غابات أشجار القرم، ويخبرني: «سأصطحبك في نزهة قريبا بالقارب إلى حشائش القرم إذا كانت (الميه سقي)». وهناك في أطراف الخليج وتحديدا في رأس سند توجد أشجار القرم، وهي نباتات بحرية توجد على السواحل الطينية في مناطق المد والجزر، وفي الخلجان شبه المغلقة، وهي مواقع مهمة لتغذية الكائنات الحية. ويخبرني حسين: «أن هذا الخليج كان يزود البحرين بأكملها بالروبيان بجميع أنواعه، واليوم أصبحت مياهه لا توفر حياة مناسبة للأسماك بسبب عدم نظافة المياه وتلوثها بمياه المجاري». ويمكنك أن تلحظ وجود أنبوب ضخم قادم من محطة توبلي لمعالجة مياه المجاري، يصب المياه المعالجة مباشرة في الخليج، وهو أحد الأسباب التي جعلت السمك (يفر بجلده) إلى بيئات نظيفة وصحية.
ويخبرني حسين عن قيامه مع أصدقاء بمطاردات على شاكلة الأفلام الأميركية للذين يقومون بإنزال حمولات مخلفات البناء والهدم، فهناك قانون صريح يمنع ذلك ولكنهم ما يزالون يقومون بذلك من دون رقيب أو حسيب.
كنت ألمح المد العمراني الذي زحف إلى داخل خليج توبلي، وحوّل مساحات المياه إلى أراض جامدة مفصولة عن التاريخ، وسبب كارثة بيئية كان بالإمكان تداركها.
وفي طريقنا للعودة، شعرت بالأسى لما يحدث من تدمير للبيئة... ولكن إصرار حسين ومجموعة الشباب البحرينيين الذين معه في ايجاد حل لإنقاذ الخليج، يظل الأفق الذي ينبض، والعلامات المضيئة التي تلتمس الحل والمخرج مهما كانت أرضية الانطلاق (رطبة)، وتدفع بك إلى الانزلاق والوقوع على الأرض مرات عديدة، قبل أن تقف بصلابة
العدد 133 - الخميس 16 يناير 2003م الموافق 13 ذي القعدة 1423هـ