تعتمد البنية العامة للتشريع الإسلامي من حيث الأصول والفروع على أشمل منظومة قيمية، تسعى إلى الإجابة وتوجيه المؤمن في جميع ظروف حياته. فالإسلام يهتم في تشريعاته بالإنسان قبل أن يتكون في رحم أمه، اذ يحدد مجموعة من المندوبات التي ينصح المؤمن ( المرأة والرجل) بالتقيد بها حتى يتكون الجنين بصورة سليمة. ويهتم كذلك به وهو جنين في مراحل تكونه الأولى. وهكذا عندما يخرج الطفل من بطن أمه إلى الحياة الدنيا، وفي جميع أدوار حياة الإنسان، يهتم الإسلام بالتوجيه الصحيح عبر المندوبات والواجبات. وهو بذلك يسعى إلى دفع الضرر عن الطفل وأبويه، وهكذا يسعى الإسلام في جميع التشريعات، وهو بذلك يؤسس لعقلية دفع الضرر ونفيه عن الإنسان في جميع صوره وأشكاله وأنساقه. فلا ضرر في الإسلام ثقافيا ولا اجتماعيا ولا اقتصاديا ولا تربويا ولا نفسيا، أي لا ضرر في الإسلام من جميع النواحي الحياتية. فهو الدين الذي يوافق الفطرة ويسعى لبناء الإنسان بعيدا عن الضرر.
وقبل الخوض في توضيح بعض مفردات ثقافة لا ضرر في الإسلام، نرجع إلى المصادر التي أسست لقاعدة نفي الضرر عن المسلم وعن المجتمع الإسلامي، وأولا نرجع إلى الكتب الحديثية، فقد نقل ابن ماجه في سننه، قال: حدثنا عبدربه بن خالد النميري أبوالمغلس حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا إسحق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله (ص) قضـى أن لا ضرر و لا ضرار.
وفي مسند أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): «لا ضرر ولا ضرار، للرجل أن يجعل خشبه في حائط جاره والطريق الميتاء سبعة أذرع».
وقد روى فقهاء أهل البيت (عليهم السلام) هذا الحديث في الكثير من المجاميع الحديثية منها ما نقله الصدوق(رض) في كتاب من لا يحضره الفقيه، عن ابن بكير عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط رجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري فيه الطريق إلى الحائط فكان يأتيه فيدخل عليه ولا يستأذن، فقال : إنك تجئ وتدخل ونحن في حال نكره أن ترانا عليه، فإذا جئت فاستأذن حتى نتحرز ثم نأذن لك وتدخل، قال لا أفعل هو مالي أدخل عليه ولا أستأذن، فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فشكا إليه وأخبره فبعث إلى سمرة فجاء فقال: استأذن عليه فأبى وقال له مثل ما قال للأنصاري ، فعرض عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشتري منه بالثمن، فأبى عليه وجعل يزيده فيأبى أن يبيع ، فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: لك عذق في الجنة، فأبى أن يقبل ذلك، يرجى التأكد من الرواية إذ يظهر أن تحت الخط نقصا فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الأنصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه وقال : لا ضرر ولا ضرار.
هذا الحديث الشريف أخضعه الفقهاء للتحليل والتدقيق في جميع ألفاظه وقد كتب فيه ما يزيد على أربعين كتابا يبحث فيه وفي مدلولاته ومعانيه ووجوه الاستدلال به، وفي تطبيقاته على الواقع الحياتي للناس في جميع أنساقه وتشكلاته، لكننا لا نريد أن نخوض في جانب البحث الأصولي في الحديث الشريف إلا بما يوضح المراد من بعض ألفاظه، وطبعا يمكن الاستدلال على نفي الحكم الضرري أو الفعل الضرري في الشريعة الإسلامية بالرجوع إلى آيات القرآن الكريم. فهناك الكثير من الآيات التي نفت الأحكام الضررية كقوله تعالى في سورة البقرة (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) (البقرة آية 231)، فهذه الآية جاءت لتنفي الضرر الذي يقع بالزوجة في حال الطلاق، اذ كان الرجل يطلق زوجته إذا غضب عليها، ويصبر عليها حتى يقترب تمام عدتها فيراجعها، لا عن رغبة فيها وإنما ليطول عليها العدة انتقاما منها ، فاعتبر الله تعالى ذلك من الأزواج «ضرارا».
وقوله تعالى في سورة البقرة (آية 233): (لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده)، والظاهر من الآية أن نفقة الولد حملا وفصيلا على الوالد فلا يجوز للوالد إضرار الوالدة بإعطائها أقل، ولا يجوز للوالدة إضرار الوالد بأخذ الأكثر، وهكذا فإن الله تعالى ينفي صحة الفعل الضرري من كلا الزوجين، وهنا نلاحظ أن الله سبحانه يريد من الناس أن يؤسسوا حياتهم وخصوصا الزوجية على نفي الضرر من الجميع. والأسرة التي تقوم على جلب النفع للصالح العام والخاص، هي أسرة مباركة تقوم على الأصل المتين وتمارس دورها الإسلامي الصحيح، والضرر قد يكون تربويا وثقافيا كعدم السعي إلى تنقية محيط الأبناء أو أفراد الأسرة من كل فكر وسلوك يخالف أحكام الدين، وقد يكون ماديا اقتصاديا كالتقتير أو الامتناع عن النفقة وغيرها من مصاديق الضرر.
والآيات التي نفت الضرر في القرآن الكريم كثيرة فبعضها جاء بلفظ الضرر كالآيات التي ذكرت وبعضها جاءت بالمعنى، وطبعا الآيات والأحاديث التي نفت الضرر قصدت نفي الضرر في مسارين من مسارات الحياة البشرية وهما: الأول: في الحياة العامة، فلا يوجد في الأحكام الشرعية إضرار أبدا، وهنا يؤسس التشريع الإسلامي جميع أحكامه العامة على قاعدة جلب المنفعة للمكلف. وتسعى الشريعة إلى جعل الحكم يصب في منفعة أكثر قدر ممكن من الناس، ولا يكون خاصا بفئة اجتماعية محددة، وطبعا هذا الأمر يجعل التشريع الإسلامي ملائما لطبيعة الإنسان من الناحية الفطرية. وهذا أمر ملاحظ في كل التوجيهات التي كلف بها الدين أتباعه.
الثاني : الحياة الخاصة، فقد نفى كذلك الضرر الشخصي والخاص ، ففي الحكم الأولي لا يجوز للإنسان أن يوصل إلى نفسه الضرر بأنواعه، سواء كان ضررا ماديا أو نفسيا أو اجتماعيا، كأن يفسد سمعته أو يقوم بأعمال تخل بمكانته الاجتماعية أو غيرهما مما يجلب لنفسه الضرر، فالإسلام باعتباره دينا كما يسعى إلى تقوية المجتمع كمجموع ونفي الضرر فعلا وحكما عنه ، فهو كذلك يسعى في الجانب الشخصي من حياة الإنسان إلى نفي الضرر حكما وفعلا .
هذه الثقافة التي يسعى لتأسيسها الدين هي في الواقع أهم أسباب قوة الأمة الإسلامية ، فالأمة باعتبارها خير الأمم هي في الواقع الداعية بحق إلى نفي الضرر عبر ثقافتها عالميا، وهي عندما كانت عقلية الأمة تعي هذه الفلسفة وتدرك هذه الروح في مجمل التشريع وتمارس هذا الدور على الصعيد الشخصي والعام والعالمي كانت رائدة فاعلة شاهدة على الأمم، لكن عندما خفتت ثقافة نفي الضرر من الحياة العامة ومن العقلية الجمعية فإن الكثير من المآسي حلت بها.
إن ثقافة نفي الضرر تؤسس للحياة مفهوما جديدا يتجاوز الأطر الضيقة إلى فضاءات رحبة واسعة ، وعندما تفكر العقلية العربية وفق هذا المفهوم الفقهي الواسع وتمارس الفعل انطلاقا منه وتقيم من خلاله منظومة فكرية حديثة، فإنها تبدأ في السير على الطريق الصحيح، إن الكثير للأسف يفكر بعقلية جلب الضرر، وما الحوادث المرورية مثلا أو سوء العلاقات بين أبناء المجتمع أو بين أبناء الأمة الواحدة إلا ثمرة للتفكير المغلوط الذي يجعل الأصل جلب الضرر وليس نفيه، ونحن هنا لابد أن نسعى من خلال التوجيه الثقافي والفكري إلى التركيز على الظواهر التي تقف معوقات في سبيل تحقيق الأهداف العليا التي رسمتها الشريعة، وأول أمر يمكن أن يسهم في نشر ثقافة نفي الضرر هو تحليل العقلية التي تقف أمام ذلك، فما الأسباب التي تجعل البعض يفكر بعقلية جلب الضرر للغير وما الدوافع، وكيف يمكن علاج هذه المشكلات؟
طبعا إن ذلك ممكن إذا سعت النخبة الفكرية إلى بناء منظومة قيمية أخلاقية حديثة تأخذ في الاعتبار التطورات التي حدثت في بنية الأمة، وأن تأخذ كذلك في الاعتبار التطورات التي حدثت في الثقافة العالمية من حولنا، فنحن باعتبارنا أمة لسنا بمعزل عن الآخرين، فنحن نؤثر ونتأثر، وعند السعي للتأسيس القيمي لمثل هذه الثقافة لابد من الاستفادة من التطورات التي حدثت في العلوم الحديثة وخصوصا المتعلقة بالمجتمع وتكنولوجيا المعلومات، وهذه التكنولوجيا من أهم العوامل التي تساعد على نشر وشيوع ثقافة لا ضرر، ونحن نتصور أن الكثير من المشكلات العالمية ستجد الحل في مثل هذه الثقافة، فالمشكلة البيئية، ومشكلة التلوث، ومشكلات الاقتصاد العالمي، بل والمشكلات السياسية والحروب وغيرها هي وليدة البعد عن هذه الثقافة الراقية التي رسخها الدين في أحكامه وقوانينه ومجمل بنائه الأيديولوجي، لكن أبرز عدو لهذه الثقافة في العصر الراهن هو ثقافة الأنـا، التي تريد المزيد من المال والشهرة والقوة على حساب الآخرين. وهنا تبدأ رسالة العقلية المسلمة التي تحاول بشتى السبل إعادة المجتمع العالمي إلى صوابه عبر ثقافة جلب النفع للجميع ونفـي الضرر عن الجميع
العدد 140 - الخميس 23 يناير 2003م الموافق 20 ذي القعدة 1423هـ