لقد لعبت الاقواس دورا ابداعيا في عمارة جامع الشيخ عيسى بن علي إذ انها تمتلك الكثير من المعاني الجمالية، فالرؤية لشكل القوس الدائري توحي بالاستمرارية الدائمة إذ حركة الكون الدائمة من تعاقب الليل والنهار وتعاقب الازمنة والفصول، كما ان مدلولها التعبيري يوحي بالراحة والطمأنينة لسهولة رؤية العين لها حيث تدور معها العين بسلاسة ووضوح من دون عائق، وتشير الاقواس المدببة إلى وحدة الهدف والنماء لاعلى وتأخذ العين والروح لتتسامى في روحانيات الايمان بالله وقيل انها تدل على النصر والعزة، فالقوس المدبب يوحي بالانتصار حيث القامة المرفوعة للقوس ونعلم ما كان لقوس النصر من مغزى تعبيري في كل ادوات الجيوش الاسلامية من الخوذة، والدرع، والسهم وغيرها وهناك الكثير من الاستخدامات الاخرى في القباب والمآذن والطرقات وحتى في القيساريات التجارية وكذلك قامت فلسفة العقود الدائرية والمدببة من حيث متانة التكوين والبناء المعماري للطرقات والحارات والمساجد والقصور.
كما ان الناظر للاقواس لا يلاحظ ان هناك تصادما في المجال المرئي بين العين والسقف المسطح العمودي على رؤوسنا، وإنما ذلك الانحناء الذي يسمح للعين بالمرور والتجاوز اللين من دون تعب لترجع من الاتجاه الآخر بمرونة ويسر ومن دون ملل بل ان النظر لتلك الاقواس بانواعها يعطي احيانا الاحساس بالرهبة والعظمة لذلك البناء المعماري وإن اتسمت بالارتفاع الشاهق ولا سيما إن تلازمت تلك الفلسفة ببناء المسجد الذي يخلو فيه العبد بربه ويقف بين يديه.
فتلك الاقواس اضافت إلى البناء المعماري للمسجد قيمة جمالية وكذلك لكونها ذات فخامة وعظمة تدهش العقل وتسحر النظر لقوة تحولاتها وتركيباتها التي تتعدد في المستوى والاتجاه لتسيطر على مجالنا المرئي، والجامع مربع الشكل إلى حد كبير وذو ارتفاع شاهق ما يزيد عن عشرة امتار من سطح الارض ويسع الجامع من الداخل ما يقارب من ثلاثة آلاف مصلى، وللجامع طابق ثاني يتشكل على هيئة مربع ناقص الضلع بالنسبة لواجهة المحراب، والجامع من الخارج يدهش الناظر إليه من حيث الجماليات التكوينية الناشئة من الاقواس الدائرية الكبيرة والبارزة، وللجامع منارتين غاية في الجمال المعماري المميز ويبلغ طولهما ما يزيد عن 30 مترا وترتكز المنارتين حول اركان الجامع الخلفية عن يمين ويسار الجامع من الجهة الشرقية، ومنارتا الجامع متطابقتان تماما في الشكل، والرائي لهما يلاحظ هذا التنوع الفريد في تكوين اجزائهما، والمنارة مربعة الشكل في ثلث طولها الاول إلى نهاية جدران الجامع الخارجية ويوجد في منتصف طول الثلث الاول منها شباك مستطيل ونهايته على شكل قوس ويفصل نصفي الثلث الاول من المنارة وزرة بارزة تربط بين كل جوانب الجامع الاربعة وتتصل بالاقواس الدائرية التي تحوي الشبابيك المفرغة ذات الاقواس المدببة والمحشوة بحشوات جبسية مفرغة، ويأتي الشباك الأول نفسه في النصف الثاني من ثلث المنارة ولكن يعلو القوس الدائري حشوة جبسية بارزة في شكل مربع وعليها زخارف هندسية دقيقة، وعند نهاية الجزء الأول من المنارة يخرج لنا شباك المنارة الكبير الأول في بداية الجزء الثاني من جسم المنارة، وأهم ما يميز الشباك تلك المتدليات ذات القوسين واطرافها المتدلية خارجة في انحناء خفيف يكسر حدة الزوايا الحادة ويخلق رؤية جمالية تنسينا شكل الشباك المستقيم والتي جاءت بديلة عن المقرنصات، والقوس هنا مفرغ وخلفيته مملؤة وتنسحب من علو لاطرافها وحتى انخفاض في وسطها ثم علو مرة ثانية لتبدأ معها عتبات ثلاث متدرجة وتكوّن الشباك الرباعي الذي يحمل أيضا تلك الاقواس الخمسة المفرغة والمتراصة في مستوى وأحد من دون بروز ليعكس لنا بذلك التضاد الجمالي في مستويات السطح المرئية وحتى مع ثبات العنصر المستخدم في الزخرفة، ويتشكل جسم المنارة في الثلث الثاني منها من ثمانية اضلاع وتظهر الشبابيك المستطيلة ايضا واعلاها القوس الدائري كما في السابق وتأتي في نهايتيهما ثلاث من العتبات المتدرجة لاعلى لترتكز عليهما أربع من الشرفات الجصية في أربعة جوانب فقط تاركة مسافة ضلع من الاضلاع الثمانية بين كل بلكونة والاخرى لتتكون لنا أربعة شبابيك في تبادل منطقي للشباك الذي يعلو الجزء الثاني من ثلث المنارة الاول لتتشكل بعد ذلك تلك الاقواس المسحوبة من اطرافها مثل قاعدة الشباك الاول للمنارة ولكن هذه المرة تكون شباكا دائريا وذا اقواس دائرية ايضا ليرتكز عليها جسم رباعي مرة اخرى ويحتوي على اقواس دائرية مماثلة ويعلوها في النهاية القبة ذات العقد المخموس والهلال النحاسي.
لقد تمتعت منارة جامع الشيخ عيسى بن علي في المحرق بقيمة معمارية عالية من حيث ذلك الترديد الجمالي في نسب المنارة واجزائها الزخرفية إذ تعددت الرؤية الجمالية للتعامل مع اسطح الاقواس المنحنية في السطح والمستوية منها وكذلك الترديد المنطقي للتدرجات والشبابيك والشرفات والتتابعات البصرية التي تسيطر على انظارنا فلا تترك فرصة للعين ان تراها بسرعة ولكنها تستحوذ على اكبر قدر ممكن من الرؤية لتوقظ فينا حب رؤية الجمال الابداعي والدال على التفكير الابتكاري والطلاقة الفكرية في صوغ محتويات تلك المنارة ذات النسبة الجمالية جملة وتفصيلا.
واهم ما يميز الجامع من الخارج تلك الاقواس الدائرية الكبيرة البارزة والمتصلة ببعضها بوزرة بارزة وترتكز تلك الاقواس الدائرية على عموين كبيرين في الطول وذوا قاعدة مربعة علوها اشبه بناقوس مقلوب وحلقات دائرية ويأتي جسم العمود الاسطواني الخالي من الزخرفة لتعلوه حلقات ثم اشرطة عمودية متراصة تحمل زخارف نباتية في تحول جميل للجسم الرباعي إذ تمتد إلى المربع البادي نفسه ثم تعلوه عتبة مسحوبة لاعلى في برواز منحنى جميل لترتكز عليه تلك الاقواس الدائرية الكبيرة الاتساع وتلك الاعمدة التي تشبه إلى حد كبير اعمدة قصر الحمراء في غرناطة وكذلك اعمدة مدخل المسجد الحرام وبعض اعمدة الجوامع المصرية، وهي تعتبر من الحلول الابداعية لانتقال العين بسهولة ويسر من الجسم الدائري حتى الرباعي من دون زوايا حادة تتفاجأ العين عندما تراها وكذلك لكي يهيئ العين والذهن في استيعاب قوة القوس الكبير الذي تحمله، فقلد حقق بذلك اتزانا بصريا بجانب الاتزان الميكانيكي لحمل ذلك الشريط فعليا والذي يقوم بالربط البصري بين تلك الاقواس الكبيرة وتضم الاقواس الدائرية الكبيرة بعض الشرفات الجبسية وهي على شكل اقواس مدببة محشوة بحشوات هندسية مفرغة غاية في الدقة والمهارة لكي تساهم في دخول ضوء الشمس لساحات المسجد الداخلية. وفي الطابق الثاني للمسجد ويتدلى ذلك القوس لاسفل من خلال امتداد لاطرافه والتي تقطعها عتبة بسيطة في منتصف المسافة ثم تنتهي اطراف القوس السفلية ويتغير مسارها لتشكل لنا قوسين آخرين مدببين في اتحاد جميل وتحتوي ايضا على شرفات جصية هندسية مفرغة.
إن المشاهد لتلك التفريعة الجميلة يحتار في ان يحدد من الذي كان سببا في وجود الآخر هل هما القوسان في الاسفل اللذين اتحددت رؤوسهما وانطلقت منهما خطوط تقابلت لتكون قوسا مدببا في النهاية أم العكس، فهو بذلك قد حقق التكوين الهرمي في البناء المعماري للشبابيك من خلال وحدة العنصر، واحيانا تتدلى تلك الخطوط من اعلى لتحوي القوسين في الاسفل ابواب المسجد ومنها ما يكون شباكا وقد يكون القوس العلوي شباكا او تكون زخرفة غائرة، ان عظمة ذلك البناء المعماري للاقواس من الخارج نجده وقد جعلنا نتساءل باستمرار من السبب في إنشاء الآخر، الحقيقة ان تبادل ازدواجية الرؤية ما هيو الا احد اسباب نجاح ذلك التصميم العبقري الذي يسيطر على حواسنا باستمرار ويبعث فينا روح التفكير وايضا روح الاعتزاز والفخر بعظمة العمارة الاسلامية التي تحوي بداخلها الكثير من مدلولات الرؤية الجمالية وتظهر لنا جماليات التضاد التشكيلي في المتناقضات الهيكلية لبناء العناصر المعمارية. وللجامع من اعلى شرفات لجدرانه تشبه تلك الاقواس الدائرية وهي عرائس السماء ولكنها في معظمها مرصوصة بجوار بعضها بعضا ملتصقة على جدار خلفي اقصر منها، كما تخرج تلك الشرفات في شكل بلكونة في جدار القبلة وتحمل البلكونة من الاسفل كوابيل بسيطة ذات مقطع دائري كما زينت تلك العرائس ساحة الإمام من الخارج واسفلها مجموعة من الكرانيش المجسمة المنحنية لاقواس مدببة وملفوفة ومتراصة بشكل جميل وهي ذات ايقاع بصري رقيق تغور فيه العين اثناء مرورها عليه.
ومدخل الجامع الرئيسي من جهة الشرق من التحف المعمارية إذ انه يتشكل من قوس دائري كبير وقائم على عمودين يتمتعان بارتفاع شاهق ويعلو المدخل حتى ارتفاع الطابق الثاني ويظهر من المدخل الباب الدائري ترديدا للمدخل وتعلوه آية نصها (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) صدق الله العظيم (الانعام: 162)، وخطت بخط الثلث في إطار بارز ويعلو ذلك الشرفات الدائرية التي تطل على المدخل من الطابق الثاني من خلال تعاشيق المشربية ذات الايقاع الجميل الذي تخترقه العين لتحاول النفاذ ولكنها ترتد مرة اخرى وتحاول وتحاول املا في النفاذ من دون ملل.
وتنتشر الشرفات الجصية ذات التشكيل الهندسي حول الابواب والشبايك بطول مساحة المسجد الكلية من الخارج والداخل ويتميز منها تلك الشرفات التي تطل من الطابق الثاني ذات الاقواس المدببة المتتالية للشرفات المتداخلة وحتى الشبابيك التي تعلو ساحة المسجد الرئيسية، والاعمدة داخل الجامع مميزة وهي تشبه إلى حد كبير اعمدة جامع القضيبية وقد شطفت زوايا الاعمدة مكونة انصاف اقواس أو محاريب بطول الاعمدة وهي حل جمالي للبعد عن الزوايا الحادة، كما يتميز الجامع بالابواب الخشبية الدائرية الكبيرة وهي مستنبطة من الباب - بو كمر - البحريني القديم، وتتعدد الابواب في الاحجام الكبيرة والصغيرة وتنتشر الابواب الداخلية الجانبية من خلال الابواب ذات الاقواس المدببة.
ومحراب جامع الشيخ عيسى بن علي في المحرق من النوادر الجمالية للمحاريب في المساجد البحرينية الحديثة، إذ نرى ذلك التتابع المتنامي والمتدرج للواجهة الخارجية للمحراب وكذلك لفتحة القبلة عن يمين القبلة وفتحة البلكونة الاخرى عن يسار القبلة، وزخرفة المحراب غزيرة وتنم عن الدقة المتناهية والمهارة الفائقة في كيفية التوزيع الجمالي للعناصر الزخرفية حول المحراب وبداخل تجويفه ذي التقاسيم الاشعاعية والتجويف الداخلي للقبلة على هيئة قوس مدبب، ولعل مفاجأة النظر إلى تلك التدرجات المتنامية في الواجهة الخارجية للمحراب وفتحتيه اليمنى واليسرى جعلته مميزا إذ جاءت مغايرة لنظم كثيرة في واجهات المحاريب في المساجد الاسلامية الاخرى وإن رأينا تلك التتابعات مختلفة بعض الشيء مثل المقرنصات المتدلية والمتنامية لأعلى ولكن ذلك التفرد الجمالي لمواجهة محراب جامع الشيخ عيسى بن علي جعلته مميزا وغريبا بعض الشيء وكأنه جاء نتيجة البحث الدائم لايجاد الجديد في التصميم المعماري
العدد 140 - الخميس 23 يناير 2003م الموافق 20 ذي القعدة 1423هـ