العدد 1637 - الأربعاء 28 فبراير 2007م الموافق 10 صفر 1428هـ

أزمة المعنى في شعر ما بعد الحداثة

السعودية - مظاهر اللاجامي 

28 فبراير 2007

حين نتصفّح دواوين تجربة شعر ما بعد الحداثة نجد أن هذه النصوص قد فقدت جاذبيتها وأصبحت مسخا بلا ملامح... انهار المعنى من صوره وبقيت دلالاته كومة من جثث الصور الغرائبية التي جفّ فيها المعنى وتحوّلت لمجرد قرقعات صوتية لا توحي و لا تدلّ إلا على فوضى اجتاحت مفهوم الشعر وبنيته اللغوية...

عندما نتجاوز الجيل السابق من الشعراء الذين بقي منهم القليل القليل كأدونيس، ولحدّ والشاعر سميح القاسم، إضافة إلى الشاعر محمود درويش، وغيرهم ممن ما زال يصارع الزمن كي يهزم الموت بالفنون على حدّ تعبير درويش ذاته في إحدى نصوصه، أقول عندما نتجاوز جيل الحداثة نجد أن الشعر في غالبه تحوّل لمجرّد تخيل أدبيّ، وتراكيب لغوية تقتنص المفردة الغريبة، والصورة الشعرية المركبة تركيبا يحيلها للوحة تشكيلية متداخلة الخطوط والألوان، والتراكيب اللغويّة المعقّدة في صيغ تركيبها وتوظيفها مع غيرها في علاقة تبدو في كثير من الأحيان مستحيلة الدلالة، ومقاربتنا هنا تركّز على مقولات النقد الحديث في إجراء الفوضى في الشعر الحديث، لا على الشعر ذاته من حيث هو تقنية وتجربة مغايرة لمقاربة الأشياء والمفاهيم والتصورات...

على رغم من أني أجد أن هذا المقطع السابق ينطبق على الكثير من النصوص الجميلة للشعراء سابقي الذكر كمحمود درويش في دواوينه الأخيرة كـ(جدارية) و(لا تعتذر عما فعلت) و(في حضرة الغياب) و(أدونيس في أول الجسد آخر البحر) و(تنبّه أيها الأعمى)، إلا ان الإيغال في اقتناص الغرائبية يحيل نصوص الشعر لأصنام لا تفعل ولا تنفعل، وبحسب أدونيس في كتابه (سياسة الشعر) فإن « نصا جماليا يفلت من المعايير المقننة الماضوية ومن جماليتها، لا تمكن و لا تصح قراءته إلا بمعايير مختلفة، وجمالية مختلفة «، وفي هذه العبارة وفي غيرها ما فتح الباب على مصراعيه لأزمة المعنى ولفوضى الشعر في العصر الحديث...

فلو أخذنا مثالا واحدا من أمثلة هذا النوع من الشعر وهو ديوان ( أيها الطاعن في الموت) لبول شاوول والذي يعد من أبرز شعراء ما يسمى ما بعد الحداثة، فسنجد بأنها خير ممثّل لمقولة أزمة المعنى في الشعر الحديث، فلو أخذنا أي مقطع من نصوص الديوان ومثّلنا بها فستكون كافية لتوضيح ما قيل سابقا، من دون أن نغفل ما كتب خلف الديوان عن جريدة « المحرر « المغربية بحيث ورد ما نصّه: « اللغة الشعرية عند بول شاوول لغة إشارية - دلالية، لغة تفسّر الحدس الغريب بالحدس الغريب، لكنها لا تنفي عنه غرابته وحدسه و لا تنفي عنه الشعور، لكن بفرق واحد أساسي: يصير شعرا وفعل شعر « ،وأجدني لو استبدلت اسم بول شاوول باسم آخر وليكن سركون بولص أو سعدي يوسف في تجاربه الشعرية الأخيرة، أو لو وضعت هذه المقولة لتجربة شعرية لشاعر آخر لما اختلف الشيء الكثير...

يقول الشاعر في نص ( أيها الطاعن في الموت في الموت في الموت ):

« تأفل الثلوج إلى نافذتك، وأنت تحدّق في العصفور الذي يرحل والكلمة التي تحرس الغابة وتحمي فمك من الرمل.

كأن تنتظر عزلتك كخريف بلا قبعة، أو موتك، كجناح أصيب بكسر، وترتفع يداك من أعلى سروة، ورأسك يستوي كهدهد. وتزورك الفصول في سنونو أو في جفلة بحيرة. الراقص الذي دار اختفى في الوادي وطلع من البحيرة.»

لا شك أن هذا النص بما يختزنه من صور شعرية غرائبية تبعث على الدهشة والطرافة، لكن السؤال الذي سيطرح على رغم من إدراكنا أن الشعر ( خصوصا الشعر الحديث ) لا يقارب إلا باعتباره بنية لغوية متكاملة، إلا أن ما سيقال ما هو إلا مثال على التجربة الشعرية الحديثة في غالبها، والسؤال هو، ماذا لو أخذنا بفكرة الفحص الاستبدالي لدوالّ النص كما جاءت عند الناقد رولان بارت بالاعتماد على كتاب الخطيئة والتكفير لعبد الله الغذاميّ، وقمنا باستبدال بعض الإشارات في فضاء النصّ كي ندرك الاختلاف الذي به تتحدد الدلالات، فلو استبدلنا هذه الإشارات ( نافذتك، العصفور، الكلمة، الغابة، الرمل، بحيرة، الوادي ) بغيرها من الإشارات التي تنتمي للحقول الدلالية لهذه الإشارات، وصارت على النحو الاتي مثلا: ( شرفتك، الحمامة، القصيدة، الحديقة، الطين، النهر، الجبل ) فهل ستنحرف الدلالة عما كانت عليه لدلالة مغايرة؟!، وبإمكان القارئ أن يستبدل جميع الألفاظ في هذا النص أو في غيره من النصوص في تجربة شاوول أو في تجربة شعراء ما بعد الحداثة، سواء بإشارات تنتمي للحقل الدلالي نفسه أو بإشارات تنتمي لحقل دلاليّ آخر، ومن ثمّ يجيب على السؤال الذي أتركه حرا من غير إجابة...

في مقولات النقد الحديث الكثير من الأدوات الإجرائية للتعامل مع النص الإبداعيّ التي تساعد على انهيار المعنى في الشعر، فالتركيز على الأثر الذي يحدثه النص على المتلقيّ، أو الكتابة في درجة الصفر بحيث تُحرّر الكلمات من الدلالة المعجمية حتى تصل المفردة لدرجة الصفر في الدلالة حيث لا تدلّ على أيّ شيء، وبذلك تصبح قادرة أن تدلّ على كل شيء، اذ أن عدم دلالتها على شيء معيّن يتيح لها أن تدل على كلّ شيء يسبغه القارئ عليها، وذلك من خلال مقولة إنتاج المعنى الذي أصبح ملكا للقارئ بحسب بارت في مقولته موت المؤلف وولادة القراءة...

وبحسب أدونيس الذي يعدّ المنظر الأول لشعر الحداثة العربية وربما لما بعد الحداثة فإنه يقول بأن الكلمة في القصيدة الناجحة « تتجاوز معناها المباشر لتصل إلى معنى أوسع وأعمق، إنها تعلو على ذاتها، وتشير إلى أكثر مما تقول» وأدونيس هنا يعي تمام الوعي أن الكلمة يجب أن تشير لأكثر مما تقول لا أن تشير إلا ما لا تقول، كما هي تجربة بول شاوول وسركون بولص ونوري الجرّاح، وغيرهما من شعراء ما بعد الحداثة الذين ضيّعوا مفاتيح النص وشفراته التي لا بدّ منها للاتكاء عليها من أجل الوصول لدلالة يتكئ عليها القارئ من أجل إغلاق احتمالات النص، بدلالة يرتضيها ولا تخرج عن بنية النص في الوقت ذاته.

العدد 1637 - الأربعاء 28 فبراير 2007م الموافق 10 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً