العدد 1645 - الخميس 08 مارس 2007م الموافق 18 صفر 1428هـ

الدين والمواطنة (مستوى آخر)

لعل أنسب تعريف للمواطنة هو انها حال يضمنها العرف والقانون يحقّ بموجبها لأعضاء المجتمع تسيير الشأن العام على قدم المساواة وفي كنف الحرية بغض النظر عن الخصوصيات العرقية أو الدينية أو المذهبية.

ولأن ظواهر النصوص الإسلامية الواردة في سياقات مختلفة هو امتياز المسلم على غيره في الخصوصيات الاعتبارية والحقوق المدنية نظير القصاص والديات والزواج والميراث والشهادة والجزية، فحينئذ لا مناص - في مقام تقرير العلاقة بين الدين والمواطنة - عن أحد طريقين: أحدهما تكلف مطابقة المضمون الديني مع مفاهيم القاموس الحديث ومن ذلك مفهوم المواطنة، ويتم ذلك من خلال تجاوز تلك النصوص المقدسة بدعوى أنها من قبيل الأحكام التدبيرية الزمنية لا التعبدية المطلقة، ولكنني أعتقد بأن المضي قدما في هذا الطريق من الصعوبة بل الاستحالة بمكان، وذلك لأن قسما كبيرا من تلك النصوص هي مضامين قرآنية يستحيل فيها دعوى التفكيك الذي يتنافى مع كون القرآن الكريم هو كتاب الله الى كل البشر الى يوم القيامة «للعالمين نذيرا»، فالكثير من التنظيرات لا تبدو بحجمها الحقيقي إلا بعد ملاحظة لوازمها واستتباعاتها والتي قد تكون من الخطورة بحيث لو التفت إليها صاحب النظرية لكان له رأي آخر، فدعوى إمكان استنباط المواطنة - بالمعنى المتعارف عالميا - من النصوص الدينية هي كدعوى استنباط قواعد التعددية والديمقراطية - كما هو مقصود بهما في الفلسفة الحديثة - من تلك النصوص، فهي في نظري لاتزال تفتقر الى أساس متين، ويكون الركون إليها بسبب الغفلة أو التغافل عن الفارق البنيوي بين منظومتي القيم الحديثة والدينية والذي يجعل التلاقي بينهما مستحيلا.

وهذا في الحقيقة يقودنا الى مستوى آخر وهو البحث في المضمون الديني عن التعايش والاحترام بين الأطياف انطلاقا من قوله تعالى «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم» (الممتحنة: 8)، وينطلق ذلك من فهم الآخر ودوافعه الحقيقية في رؤاه وسلوكاته، وهذا يتوقف على ترويج الدراسات المقارنة والتي تكتسب أهمية قصوى لا من حيث التعرف على حقائق الأديان والمذاهب المختلفة فحسب - مع إنه أمر مهم في ذاته - بل لما لذلك من تأثير كبير على تحقيق علاقات أكثر إيجابية بين أتباع تلك الأديان والمذاهب لكونها تساهم في بناء حال من القبول بصدقية الدين أو المذهب المخالف من خلال التعرف على حقيقة منطلقاته ومضامينه وملاحظة واقع ظروفه في التأسيس والسيرورة، والشيء المهم جدا في هذا السياق هو التغلب على العوائق النفسية في العلاقات البينية من خلال الالتزام بأدب التعامل انطلاقا من قوله تعالى «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن» (العنكبوت: 46)، وهنا تبدو ضرورة مراجعة النصوص الروائية والفتوائية وكذلك الممارسات السلوكية لدى أهل الأديان والمذاهب والتي قد لا تنسجم مع هذا المبدأ المهم، ولذلك فلا مناص عن القول بأنه قد حان الوقت لتصحيح الواقع اللا أخلاقي لدى المسلمين من خلال أدوات اجتهادية تنطلق من النص الأول (القرآن الكريم) وتجعله مرجعا أصليا في الفهم والتعامل وتخترق بذلك التراث المنحول والمتلاعب به والذي ساهم في مراكمة الحدود اللامعقولة بين المذاهب، فلا بد مثلا - كخطوة أولى - من اعتراف جميع المسلمين بمذهب أهل البيت والكف عن وصم أتباعهم - بغير حق - بالشرك تارة والخروج عن الملة أخرى. كما إنه لا مناص أيضا عن تخلي بعض عوام الشيعة عن إهانة الرموز الدينية لسائر المسلمين، فمن يتأمل في السيرة العامة لأئمة أهل البيت الأطهار يذعن بأنهم ليسوا من أهل ذلك الديدن ولا هو لائق بشأنهم الذي هو من شأن النبي المخاطب بقوله تعالى «وإنك لعلى خلق عظيم» (القلم: 4).

وقد نقل بعض أهل السير أن جماعة من العراق جاءت تريد الإمام علي بن الحسين (ع) وبعد أن دخلوا عليه ذكروا أبا بكر وعمر وعثمان بسوء ونالوا منهم فقال لهم: ألا تخبروني من أنتم!؟ أنتم من المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون؟ قالوا: لا. قال: أفأنتم من الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبُّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟ فقالوا: لا فقال: أما أنتم قد تبرأتم من أن تكونوا من هذين الفريقين وأنا أشهد بأنكم لستم من الذين قال الله في حقهم «والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلا للذين آمنوا» (الحشر: 10) اخرجوا فلا بارك الله فيكم! (سيرة الأئمة للسيد هاشم معروف الحسني)

ومهما ادُّعيَ بأن الترويج الى تفهم دوافع الأديان والمذاهب قد يؤدي في نهاية المطاف الى ضياع الحقيقة وصولا الى العدمية، بمعنى عدم التأكد من حقانية أي شيء، إلا إن الذي لا ريب فيه هو إنه لا خلاص من دوامة العنف القولي والفعلي الجاريين على قدم وساق بين أتباع الأديان والمذاهب إلا من خلال التفكير في بناء أخلاقي قيمي يستند - في مقام التعامل مع الآخر - الى اعتراف حقيقي بحقه في الوجود والتعبير انطلاقا من ذاتية ذلك الحق المستند الى أصالة الكرامة «ولقد كرمنا بني آدم» (الإسراء: 70) وليس انطلاقا من مصالح دين أو مذهب بعينه، فإن ذلك لا يخلو في نظري عن ذرائعية غير محببة ولن ينتج سوى المزيد من الشك والريبة بين الأطراف، وقد قرأت - قبل فترة وجيزة - كلاما لأحد الدعاة يحث فيه المسلمين الموجودين في الغرب على استغلال الحريات هناك بالدعوة الى الإسلام ونشره في بلاد الكفر ما استطاعوا الى ذلك سبيلا!

ولكن هل سألنا أنفسنا عن تلك الحرية الغربية التي نريد استغلالها في مواجهته؟ أهي شيء مقبول لدينا أم لا؟ فإن كانت حسنة فلماذا لا نتحمس لها جدا في أوطاننا؟ وإن كانت سيئة فلماذا عادت علينا بالنفع؟ هذا كلام يجب أن يقال مكررا وذلك لتبدو بعض وجوه المفارقات في ثقافتنا السائدة قولا وفعلا، وما أكثرها!

العدد 1645 - الخميس 08 مارس 2007م الموافق 18 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً